قولهم «فلان يأكل من حرفة كذا» كأنه قال : ومن هذه الجنان وجوه أرزاقكم ومعايشكم. ووصف الزيتون بأن دهنه صالح للاستصباح والاصطباغ جميعا. قال جار الله : طور سيناء وطور سينين إما أن يكون الطور فيه مضافا إلى بقعة اسمها سيناء وسينون ، وإما أن يكون المجموع اسما للجبل وهو جبل فلسطين على قول والطور الذي منه نودي موسى. من قرأ (سَيْناءَ) بفتح السين فهو كصحراء ، ومن قرأ بكسرها فمنع صرفه للعلمية والعجمة أو التأنيث بتأويل البقعة ولا يكون ألفه حينئذ للتأنيث كعلباء وحرباء. قال في الكشاف (بِالدُّهْنِ) في موضع الحال والباء للمصاحبة دون التعدية ، لأن نبات الدهن أو إنباته لا يكاد يستعمل. فالمعنى تنبت الشجرة وفيها الدهن أو تنبت الشجرة زيتونها وفيه الزيت. ويجوز أن يكون أنبت بمعنى نبت أيضا ، والصبغ الإدام لأنه يصبغ الخبز. قلت : لا يبعد أن يريد بالصبغ نفس ثمر الزيتون لا الزيت ، وكذا يحتمل أن تكون الباء في (بِالدُّهْنِ) للتعدية إلا أن يكون الإنبات متعديا. قال المفسرون : إنما أضافها الله تعالى إلى هذا الجبل لأنها منه تشعبت في البلاد وتفرقت أو لأن معظمها هنالك. قوله (وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً) قد مر في «النحل». ولعل القصد بالأنعام هاهنا الإبل خاصة لأنها هي المحمول عليها في العادة ولأنه قرنها بالفلك وهي سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر. وإنما قال في هذه السورة. (فَواكِهُ كَثِيرَةٌ) بالجمع بخلاف ما في «الزخرف» لتناسب قوله هنا (مَنافِعُ كَثِيرَةٌ) ولتناسب قوله (جَنَّاتٍ) كما قال هنالك (فاكِهَةٌ) [الرحمن : ١١] على التوحيد لتناسب قوله (وَتِلْكَ الْجَنَّةُ) [مريم : ٦٣] وإنما قال هنا في الموضعين (وَمِنْها تَأْكُلُونَ) بزيادة الواو خلاف الزخرف لأن تقدير الآية : منها تدخرون ومنها تأكلون ومنها تبيعون ومنها ومنها ، وليس كذلك فاكهة الجنة فإنها للأكل فحسب فافهم. واعلم أنه لما انجر الكلام إلى ذكر الفلك أتبعه قصة نوح لأنه أول من ألهم صنعتها ، وفيه أيضا تمزيج القصص بدلائل التوحيد على عادة القرآن لأجل الاعتبار والتنشيط. وقوله (ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ) جملة مستأنفة تجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة. ومعنى (أَفَلا تَتَّقُونَ) أفلا تخافون أن تتركوا عبادة من هو لوجوب وجوده مستحق العبادة ثم تذهبوا فتعبدوا ما ليس بهذه الصفة بل هو في أخس مراتب الإمكان وهي الجمادية.
ثم حكى الله سبحانه عنهم شبها : الأولى قولهم (ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ) إنكار كون الرسول من جنس البشر أو إنكار كونه مثلهم في الأسباب الدنيوية من المال والجاه والجمال كأنهم ظنوا أن القرب من الله يوجب المزية في هذه الأمور ويتأكد هذا الاحتمال بالشبهة الثانية وهي قوله (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) أي يتكلف طلب الفضل والرياسة عليكم نظيره (وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ) [يونس : ٧٨] ويتأكد الاحتمال الأول بالشبهة الثالثة