شتى. ومن قرأ بفتح الباء فمعناه قطعا استعيرت من زبر الفضة والحديد. ثم أكد الذم بقوله (كُلُّ حِزْبٍ بِما) أي كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه دينا لنفسه معجب به يرى أنه المحق الرابح وغيره المبطل الخاسر. ثم بالغ في الذم والتهديد بقوله (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ) وهذا الأمر مما يدل على أن المخاطب بقوله (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) هو نبينا صلىاللهعليهوسلم وقد يطلق لفظ الجماعة على الواحد تعظيما وتفخيما كقوله (إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً) [النحل : ١٢٠] والغمرة الماء الذي يغمر القامة. قال جار الله : ضربت مثلا لما هم مغمورون فيه من جهلهم وغوايتهم ، أو شبهوا باللاعبين في غمرة الماء لما هم عليه من الباطل. قلت : وأنت إذا تأملت فيما أسلفنا لك في المقدمة التاسعة من مقدمات الكتاب عرفت الفرق بين الوجهين. قال في الكشاف إلى حين أي إلى أن يقتلوا أو يموتوا. والتحقيق أنه الحالة التي يظهر عندها الحسرة والندامة وذلك إذا عرّفهم الله بطلان ما كانوا عليه وعرّفهم سوء منقلبهم فيشمل الموت والقبر والمحاسبة والنار ، وفيه تسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم ونهي عن الجزع من تأخير عقابهم. ثم إن القوم كانوا أصحاب نعمة ورفاهية فبين الله تعالى أن ذلك الذي جعله مددا لهم وهو المال والبنون سبب لاستدراجهم إلى زيادة الإثم نظيره في آل عمران (إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً) [الآية : ١٧٨] وما في (أَنَّما) موصولة والرابط محذوف أي نسارع لهم فيه. وفي قوله (بَلْ لا يَشْعُرُونَ) أنهم أشباه البهائم لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا أهو استدراج أم مسارعة في الخبر. وفيه أنه سبحانه أعطاهم هذه النعم ليكونوا متمكنين بها من الاشتغال بطلب الحق وحين أعرضوا عن الحق كان لزوم الحجة عليهم أقوى.
التأويل : (يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ) لم يعلموا أنهم وإن كانوا يأكلون مما يأكلون ولكنهم لا يأكلون كما يأكلون. «المؤمن يأكل في معي واحد والكافر يأكل في سبعه أمعاء» (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ) وأهل الله يأكلون ويشربون من مقام «أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني» (١) (وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ) أي في حال الطفولية كانت صفات الروح والقلب عون النفس وتربيتها وتربية صفاتها لاستكمال القالب إلى حد البلوغ ، والاستعداد لتحمل أعباء تكاليف الشرع (وَآوَيْناهُما) يعني مريم النفس وعيسى القلب (إِلى رَبْوَةٍ) القالب الذي فيه قرارهما ويجري فيه ماء معين الحكمة من القلب على اللسان (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ) أي القوى المرسلة إلى القالب.
__________________
(١) رواه البخاري في كتاب التمني باب ٩. مسلم في كتاب الصوم حديث ٥٧ ، ٥٨. الموطأ في كتاب الصيام حديث ٥٨. أحمد في مسنده (٣ / ٨) (٦ / ١٢٦).