إياه الغاية «ما أوذي نبي مثل ما أوذيت» (١) هذا مع أنه سبحانه سلاه وعزاه وأمره بالصبر على أذاهم حين قال (وَكَذلِكَ جَعَلْنا) بين ذلك أن له أسوة بسائر الأنبياء فليصبر على ما يلقاه من قومه كما صبروا ، وتمام البحث فيه قد سلف في الأنعام في قوله (وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِ) [الأنعام : ١١٢] (وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً) إلى مصالح الدين والدنيا أو إلى طريق قهرهم والانتصار منهم ونصيرا لك على أعدائك. ثم حكى عنهم شبهة خامسة وهي قولهم : هلا نزل عليه القرآن حال كونه جملة واحدة أي مجتمعا. ومعنى التنزيل هاهنا التعدية فقط لقرينة قوله (جُمْلَةً) خلاف ما تقرر في أكثر المواضع من إرادة التكثير المفيد للتدريج كما مر في قوله (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ) [آل عمران : ٣] والقائلون قريش أو اليهود فأجاب الله تعالى عن شبهتهم بقوله (لِنُثَبِّتَ) إلخ. وتقريره من وجوه أحدها : أن محمدا صلىاللهعليهوسلم لم يكن قارئا كاتبا بخلاف موسى وداود وعيسى فلم يكن له بد من التلقن والتحفظ فأنزله الله عليه منجما في عشرين سنة. وعن ابن جريج : في ثلاث وعشرين ليكون أقرب إلى الضبط وأبعد عن النسيان والسهو. وثانيها أن الاعتماد على الحفظ أقرب إلى التحصيل من الاعتماد على الكتابة والحفظ لا بد فيه من التدرج. وثالثها إن نزول الشرائع متدرجة أسهل على المكلف منها دفعة. ورابعها أن نزول جبريل ساعة فساعة مما يقوي قلبه ويعينه على تحمل أعباء النبوّة والرسالة. وخامسها أن نزوله مفرّقا يوجب وقوع التحدي على أبعاض القرآن وأجزائه ونزوله جملة يقتضي وقوع التحدي على مجموعه ، ولا ريب في أن الأول أدخل في الإعجاز. وسادسها أن نزوله بحسب الوقائع والحوادث أوفق في باب التكاليف والاستبصار وأدل على الأخبار عن الحوادث في أوقاتها. وسابعها أن في تجديد منصب السفارة في كل حين مزيد شرف لجبريل.
وللترتيل معان منها : أنه قدره آية بعد آية ودفعة عقيب دفعة. ومنها التأني في القراءة ومعنى (وَرَتَّلْناهُ) أمرنا بترتيل قراءته ومنه حديث عائشة في قراءته : لا يسرد كسردكم. هذا لو أراد السامع أن يعدّ حروفها لعدها وهو مأخوذ من ترتيل الأسنان أي تفليجها. يقال : ثغر مرتل ويشبه بنور الأقحوان في تفليجه. ومنها أنه نزله في مدد متباعدة الأطراف جملتها عشرون سنة ولم يفرقه في مدد متقاربة. ثم ذكر أنهم محجوبون في كل أوان بقوله : (وَلا
__________________
(١) رواه الترمذي في كتاب القيامة باب ٣٤. ابن ماجة في كتاب المقدمة باب ١١. أحمد في مسنده (٣ / ١٢٠) بلفظ «ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد ...».