كل ذي عقل أو فرعون وقومه. والواو في (وَاسْتَيْقَنَتْها) للحال وقد مضمرة وفي زيادة (أَنْفُسُهُمْ) إشارة إلى أنهم أظهروا خلاف ما أبطنوا والاستيقان أبلغ من الإيقان. وقوله (ظُلْماً وَعُلُوًّا) أي كبرا وترفعا مفعول لأجلهما. وقرىء (مُبْصِرَةً) بفتح الميم نحو «مبخلة» قرأها علي بن الحسين وقتادة والله أعلم.
التأويل : طا طلب الطالبين ، وسين سلامة قلوبهم من تعلقات غير الله ، تلك دلالات القرآن وشواهد أنواره (وَكِتابٍ مُبِينٍ) فيه بيان كيفية السلوك ولذلك قال (هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ) بالوصول إلى الله الذين يستقيمون في المعارج لحقائق الصلوات ويؤتون الزكاة أموالهم وأحوالهم بالإضافة على المستحقين (زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ) الدنيوية النفسانية (فَهُمْ يَعْمَهُونَ) لعمي قلوبهم عن رؤية الآخرة ونعيمها ، ولا يكون في عالم الآخرة أعمى إلا كان أصم وأبكم ولهذا قال صلىاللهعليهوسلم «حبك للشيء يعمي ويصم» (١) فبحب الدنيا عميت عين القلب وصمت أذنه وصار أبكم عن العلم اللدني والنطق به ، وهو سوء العذاب ، وهو الموجب لخسران الدارين مع خسران المولى ، وإنما يكون خسران الدارين ممدوحا إذا ربح المولى. وجد أبو زيد في البادية قحفا مكتوبا عليه خسر الدنيا والآخرة فبكى وقبله وقال : هذا رأس صوفي. وحين أخبر عن مقامات المؤمنين ودركات الكافرين أخبر عن مقام النبي صلىاللهعليهوسلم بقوله (وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ) لا من عند جبريل بل (مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ) تجلى لقلبك بحكمة القرآن (عَلِيمٍ) يعلم حيث يجعل رسالته. ثم ضرب مثالا لذلك وهو أن موسى القلب لما كشف له أنوار شواهد الحق في ليلة الهوى وظلمة الطبيعة (قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ) وهم النفس وصفاتها (إِنِّي آنَسْتُ ناراً) بوادي أيمن السر (لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) بتلك النار عن جمود الطبيعة (فَلَمَّا جاءَها) على قدمي الشوق وصدق الطلب (نُودِيَ) من الشجرة الروحانية (أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي) نار المحبة نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة (وَمَنْ حَوْلَها) كالفراش يريد أن يقع فيها (وَأَلْقِ) عن يد همتك كل ما تعتمد عليه سوى فضل الله فإنه جان في الحقيقة (وَلَّى مُدْبِراً) هاربا إلى الله (وَلَمْ يُعَقِّبْ) لم يرجع إلى غيره فلذلك نودي بـ (لا تَخَفْ) فإن القلوب الملهمة الموصلة إليها الهدايا والتحف والألطاف لا تخاف سوى الله إلّا من ظلم نفسه بالرجوع إلى الغير (وَأَدْخِلْ) يد همتك في جيب قناعتك (تَخْرُجْ بَيْضاءَ) نقية من لوث الدارين (فِي تِسْعِ آياتٍ) من أسباب هلاك النفس وصفاتها (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ) الذين أفسدوا الاستعداد الفطري والله أعلم.
__________________
(١) رواه أبو داود في كتاب الأدب باب ١١٦. أحمد في مسنده (٥ / ١٩٤) (٦ / ٤٥٠).