بعضهم : المصيب واحد لقوله (فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ) ولو كان كلاهما مصيبا لم يكن لتخصيص سليمان بالفهم فائدة. وضعف بعضهم كلا الاستدلالين بعد تسليمهما بأن ما ثبت في شرعهم لا يلزم أن يكون ثابتا في شرعنا.
ولما مدح داود على سبيل الاشتراك ذكر ما يختص بكل منهما فبدأ بداود قائلا : (وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ) أي حال كونهن مسبحات أو هو استئناف كأنه قيل : كيف سخرهن؟ فقال : (يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ) وهو معطوف على الجبال أو مفعول معه ، وتسبيح الجبال إما حقيقة أو مجاز وعلى الأول قال مقاتل : كان إذا سبح داود سبح الجبال والطير معه. وقال الكلبي : إذا سبح داود أجابته الجبال. وقال سليمان بن حيان : كان داود إذا وجد فترة أمر الله تعالى الجبال فسبحت فيزداد نشاطا واشتياقا. وعلى الثاني قيل : كانت الجبال تسير معه حيث سار فكل من رآها كان يسبح الله تعالى ، فلما حملت على التسبيح وصفت به وهذا القول اختيار كثير من أصحاب المعاني والمعتزلة ، لأن الجماد غير قابل للحياة والفهم عندهم ، ولأن المتكلم هو الذي يفعل الكلام لا الذي يكون محلا للكلام ، ولهذا يقال : إن المتكلم هو الله حين كلم موسى لا الشجرة. وإنما قدم تسبيح الجبال على الطير لأن ذلك أدل على القدرة وأدخل في الإعجاز ، فإن الطير أقرب إلى الحيوان الناطق من الجماد ولا يلزم من نطق الطير أو الجبل أن يكونا مكلفين فليس كل ناطق مكلفا كالأطفال والمجانين. (وَكُنَّا فاعِلِينَ) أي قادرين على أن نفعل أمثال هذه الخوارق على أيدي الأنبياء لأجلهم وإن كانت عجيبة عندكم. واللبوس اللباس يقال : البس لكل حالة لبوسها والمراد الدرع. عن قتادة أنها كانت صفائح فسردها وحلقها داود فجمعت الخفة والتحصين وتوارث الناس منه وعمت النعمة بها لكل المحاربين فلذلك قال (فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ) قال علماء المعاني : هذا التركيب أدخل في الإنباء عن طلب الشكر من قولنا «فهل أنتم تشكرون» إذ المختار فيه أن يقدر مفسر محذوف أي هل تشكرون تشكرون. ومن قولنا «أفأنتم شاكرون» لأنه وإن كان ينبىء عن عدم التجدد لمكان الجملة الاسمية إلا أنه دون المذكور في القرآن فإن «هل» أدعى للفعل من الهمزة ، فترك الفعل معه يكون أدخل في الإنباء عن استدعاء المقام عدم التجدد لأن تخلف المعلول عن العلة القوية يدل على وجود مانع أقوى منه إذا تخلف عن العلة الضعيفة.
ثم حكى ما أنعم به على سليمان فقال (وَلِسُلَيْمانَ) أي وسخرنا له (الرِّيحَ) حال كونها (عاصِفَةً) ولا ينافي هذا قوله في (فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ) [ص : ٣٦] لأن المراد أنها مع كونها في نفسها رخية طيبة كالنسيم كانت في عملها