وأما طالب الآخرة فيرجع إلى صورة رحمتنا وهي الجنة ، وأما الذي يطلبنا فإنه يرجع إلينا بالحقيقة (وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ) في الأزل من أهل السعادة حتى إذا فتح سد (يَأْجُوجُ) النفس و (مَأْجُوجُ) الهوى ، والسد أحكام الشريعة وفتحها مخالفاتها وموافقات الطبع وهم أعني دواعي النفس من كل معدن شهوة من الحواس الظاهرة والباطنة (يَنْسِلُونَ) فيفسدون ما يمرون عليه من القلب والسر والروح (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ) إهلاك القلوب الغافلة (فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ) بصائرها بالانهماك في الأهواء (إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى) العناية الأزلية (لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها) أعني مقالات أهل البدع والأهواء (وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ) المطمئنة المجذوبة بجذبة (ارْجِعِي) في مقامات السير في الله (خالِدُونَ) الفزع الأكبر قوله في الأزل «هؤلاء في النار ولا أبالي» (يَوْمَ نَطْوِي) سماء وجود الإنسان بتجلي صفات الجلال في إفناء مراتب الوجود من الانتهاء إلى الابتداء وذلك قوله (كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ) يعني أن الرجوع يكون بالتدريج كما أن البدء كان بالتدريج خلق النطفة علقة ثم خلق العلقة مضغة ثم خلق المضغة عظاما ثم كسا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر. ففي الإعادة يجب أن يمر السالك من الإحساس على الحيوانية ثم النباتية ثم المعدنية ثم البسائط العنصرية ثم الملكوتية ثم الروحانية ثم إلى صفات الربوبية بجذبة (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ) [الفجر : ٢٨] (وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ) أي في أم الكتاب (مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) أي بعد أن قلنا للقلم أكتب نظيره (كُنْ فَيَكُونُ) [يس : ٨٢] أن أرض جنة الوجود الحقيقي (يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ) وهم الذين طويت سماء وجودهم المجازي. فالوجود المجازي لكونه غير ثابت ولا مستقر كالسماء ، والوجود الحقيقي لكونه ثابتا ومستقرا على حالة واحدة كالأرض (لِقَوْمٍ عابِدِينَ) عارفين. (وَما أَرْسَلْناكَ) من كتم العدم (إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) فلولاك لما خلقت الأفلاك «أول ما خلق الله روحي» ولو لا الأزل لم تنته الهوية إلى الآخر والله أعلم.