وإن ترك اللطافة المانعة من الرؤية ونزل إلى الأفق الأدنى من الآفاق الملكية ولكن لم يخرج عن كونه ملكا فلم يبقى بينهما إلا اختلاف حقيقتهما نظيره (وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) [التكوير: ٢٣] أي رأى جبرائيل وهو أي محمد بالأفق الفارق بين درجة الإنسان ومنزلة الملك كقول القائل: «رأيت الهلال على السطح» أي وأنا على السطح. وقد يجعل ذكر القوس عبارة عن معنى آخر هو أن العرب كانوا إذا عاهدوا فيما بينهم طرحوا قوسا أو قوسين لتأكيد العهد بين الاثنين ، فأخبر الله سبحانه أنه كان بين جبرائيل ومحمد عليه الصلاة والسلام من المحبة وقرب المنزلة مثل ما تعرفونه فيما بينكم عند المعاقدة. وقيل: الضمير لمحمد صلىاللهعليهوسلم أو لله والمراد قرب المكان بينهما. وهذا يشبه مذهب المجسمة إلا أن يقال: دنا دنو ألفة ولا دنو زلفة. دنا دنو إكرام لا دنو أجسام ، دنا دنو أنس لا دنو نفس. والقوسان أحدهما صفة الحدوث والأخرى صفة القدم. أخبر بالقصة إكراما وكتم الإسرار عظاما.
قوله (فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى) الضمير في الفعلين إما لله أو لجبرائيل ، والمراد بالعبد إما محمد صلىاللهعليهوسلم أو جبريل عليهالسلام فيحصل تقديرات أحدها: فأوحى الله إلى محمد صلىاللهعليهوسلم عبده ما أوحى وفيه تفخيم لشأن الوحي. وقيل: أوحى إليه الصلاة. وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها. وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك. والظاهر أنها أسرار وحقائق ومعارف لا يعلمها إلا الله ورسوله. ثانيها فأوحى الله إلى محمد صلىاللهعليهوسلم ما أوحى أولا جبرائيل يعني أن الوحي كان ينزل عليه أولا بواسطة جبرائيل وقد ارتفعت الآن تلك الواسطة. وعلى هذا يحتمل أن يقال «ما» مصدرية أي أوحى إلى محمد صلىاللهعليهوسلم الإيحاء أي العلم بالإيحاء كي يفرق بين الملك والجن ، أو كلمه أنه وحي أو خلق فيه علما ضروريا. ثالثها فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى. رابعها فأوحى الله إلى جبرائيل ما أوحى جبريل إلى محمد صلىاللهعليهوسلم وغيره من الأنبياء قبله. وفيه إشارة إلى أن جبريل عليهالسلام أمين لم يجن قط في شيء مما أوحى إلى الأنبياء. خامسها فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلىاللهعليهوسلم ما أوحى الله إليه. سادسها فأوحى جبرائيل إلى عبد الله ما أوحى هو. لاوفي هذين الوجهين لا يمكن أن يراد بالعبد إلا محمد صلىاللهعليهوسلم. قوله (ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى) الأشهر أن اللام للعهد وهو فؤاد محمد صلىاللهعليهوسلم أي ما قال فؤاده لما رآه لم أعرفك. ولو قال ذلك لكان كاذبا لأنه عرفه. ومن قرأ بالتشديد فظاهر أي صدق فؤاده ما عاينه ولم يشك في ذلك. وقيل: اللام للجنس والمراد أن جنس الفؤاد لا ينكر ذلك وإن كان الوهم والخيال ينكره. والمقصود نفي الجواز لا نفي الوقوع كقوله (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) [الأنعام: ١٠٣]