٢٥٨] وأما خلق الذكر والأنثى فلم يتوهم أحد أنه بفعل المخلوقين فلم يؤكد بالفصل وعلى هذا القياس قوله (وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى) ظاهره وجوب وقوع الحشر في الحكمة الإلهية للمجازاة على الإحسان والإساءة وقال في التفسير الكبير: هو كقوله (ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ) [المؤمنون: ١٤] أي بعد خلقته ذكرا وأنثى نفخ فيه الروح الإنساني ثم أغناه بلبن الأم وبنفقة الأب في صغره ، ثم أقناه بالكسب بعد كبره أي أعطاه القنية وهي المال الذي تأثلته وعزمت أن لا تخرجه من يدك ، وبالجملة فالإغناء بكل ما تدفع به الحاجة والإقناء بما زاد عليه. وإنما وسط الفصل لأن كثيرا من الناس يزعم أن الفقر والغنى بكسب الإنسان واجتهاده ، فمن كسب استغنى ومن كسل افتقر. وذهب بعضهم إلى أنه بالبخت أو النجوم فقال ردا عليهم (وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) وهما شعريان شامية ويمانية وهذه أنورهما. وخصت بالذكر لأن أبا كبشة أحد أجداد رسول الله صلىاللهعليهوسلم من قبل أمه قال: لا أرى شمسا ولا قمرا ولا نجما تقطع السماء عرضا غيرها فليس شيء مثلها فعبدها وعبدتها خزاعة فخالفوا قريشا في عبادة الأوثان. وكانت قريش يقولون لرسول الله صلىاللهعليهوسلم «أبو كبشة» تشبيها له لمخالفته إياهم في دينهم. وحين ذكر أنه أغنى وأقنى وذلك كان بفضل المولى لا بعطاء الشعرى ، ذكرهم حال الأقدمين الهلكى. وعاد الأولى قوم هود والأخرى ، إرم ميزوا عن قوم كانوا بمكة. وقيل: أراد التقدم في الدنيا وأنهم كانوا أشرافا قوله (وَثَمُودَ) عطف على (عاداً) أي ما رحم عليهم. ومن المفسرين من قال فما أبقى أي ما ترك أحدا منهم كقوله (فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ) [الحاقة: ٨] وبه تمسك الحجاج على من زعم أن ثقيفا من ثمود. وإنما وصف قوم نوح بأنهم كانوا هم أظلم وأطغى فبالغ بتوسيط الفصل وبناء التفضيل لأن نوحا عليهالسلام كان أول الرسل إلى أهل الأرض ، وكان قومه أول من سن التكذيب وإيذاء النبي والبادي أظلم ، ومن سن سنة سيئة فله وزرها ووزر من عمل بها. ولأنهم كانوا مجاوزين حد الاعتدال يضربون نبيهم حتى لم يربه حراك وينفرون عنه الناس ويخوفون صبيانهم وما نجع فيهم وعظه ألف سنة إلا خمسين عاما. وليس قوله (إِنَّهُمْ كانُوا) تعليلا للإهلاك حتى يرد عليه أن غيرهم من الظالمين والطاغين لا يلزم أن يهلكوا وإنما هي جملة معترضة بيانا لشدة طغيانهم وفرط ظلمهم. (وَالْمُؤْتَفِكَةَ) يعني قريات قوم لوط لأنها ائتفكت بأهلها أي انقلبت وقد مر في هود (أَهْوى) أي رفعها إلى السماء على جناح جبريل فأسقطها إلى الأرض (فَغَشَّاها ما غَشَّى) من الحجارة المسومة وفيه تهويل وتفخيم لما صب عليهم من العذاب. وجوز أن يكون «ما» فاعلا كقوله (وَالسَّماءِ وَما بَناها) [الشمس: ٥] هذا كله حكاية ما في الصحف إلا فيمن قرأ (وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى) بالكسر على الابتداء وكذا ما بعده أما قوله (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى) فقد قيل: هو أيضا مما في