وقتادة أن النون هو الدواة. قال:
إذا ما الشوق برّح بي إليهم |
|
ألقت النون بالدمع السجوم |
فيكون قسما بالدواة والقلم العظيم النفع فيهما فإن التفاهم يحصل بالكتابة كما يحصل بالعبارة. وعن بعض الثقات أن أصحاب السحر يستخرجون من بعض الحيتان شيئا أسود كالنقس أو أشد سوادا منه يكتبون منه فيكون النون. وهو الحوت عبارة عن الدواة ، ويعضده ما روي أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال «أول شيء خلقه الله القلم ثم خلق النون وهو الدواة ثم قال اكتب ما هو كائن من عمل أو أثر أو رزق أو أجل فكتب ما هو كائن وما كان إلى يوم القيامة ثم ختم على القلم فلم ينطق إلى يوم القيامة» وعن معاوية بن قرة مرفوعا أن النون لوح من نور تكتب الملائكة فيه ما يأمرهم الله به. وقيل: نهر في الجنة. اعترض النحويون على هذه الأقوال كلها أن اللفظ إن كان جنسا لزم الجر والتنوين وكذا إن كان علما منصرفا ، وإن كان علما غير منصرف لزم الفتح بتقدير حرف القسم ، وقيل: النون آخر حرف من حروف الرحمن فإنه يجتمع من الر وحم ون هذا الاسم الخاص. أما القلم فالأكثرون على أنه جنس أقسم الله سبحانه بكل قلم يكتب به في السماء وفي الأرض وقال آخرون: هو القلم المعهود الذي جاء في الخبر أن «أول ما خلق الله القلم» (١) والجوهرة التي وردت في الحديث «أول ما خلق الله جوهرة فنظر إليها بعين الهيبة فذابت وتسخنت فارتفع منها دخان وزبد فخلق من الدخان السماء ومن الزبد الأرض» كلها واحدة ولعلك قد وقفت على تحقيق هذه المعاني في هذا الكتاب. و «ما» في قوله (وَما يَسْطُرُونَ) موصولة أو مصدرية والضمير لكل من يسطر أو للحفظة. وقيل: أراد أصحاب القلم فحذف المضاف قال الزجاج: «أنت» اسم «ما» والخبر (بِمَجْنُونٍ) وقوله (بِنِعْمَةِ رَبِّكَ) كلام وقع في البين والمعنى انتفى عنك الجنون بواسطة إنعام ربك عليك ، أو انتفى عنك الجنون متلبسا بنعمة الله كما لو قلت: أنت عاقل بحمد الله أي ثبت لك العقل حال كونك متلبسا بحمد الله ، أو أثبته لك حال كون التباسي بالحمد. وقال عطاء وابن عباس: يريد بنعمة ربك عليك بالإيمان والنبوة وسائر الأخلاق الفاضلة. وفيه إشارة إلى أن نعم الله تعالى كانت ظاهرة في حقه من الفصاحة وكمال العقل والاتصاف بكل ملكة وإذا كانت هذه النعمة ظاهرة فوجودها ينافي حصول الجنون وكلام العدى ضرب من الهذيان. (وَإِنَّ لَكَ) على احتمال أعباء النبوة ومشاق تبليغ الرسالة (لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ)
__________________
(١) رواه أبو داود في كتاب السنّة باب ١٦. الترمذي في كتاب القدر باب ١٧. أحمد في مسنده (٥ / ٣١٧).