هذه صورة لا شك رائعة أبدع أبو العتاهية تصويرها ، وستبقى حلوة فى الأسماع حبيبة إلى النفوس ما بقى الزمان.
ثم اسمع قول البارودى :
إذا استلّ منّا سيّد غرب سيفه |
|
تفزّعت الأفلاك والتفت الدّهر (١) |
وخبرنى عما تحسّ وعما ينتابك من هول مما تسمع. وقل لنا كيف خطرت فى نفسك صورة الأجرام السماوية العظيمة حيّة حساسة ترتعد فزعا ووهلا ، وكيف تصورت الدهر وهو يلتفت دهشا وذهولا؟
ثم اسمع قوله فى منفاه وهو نهب اليأس والأمل :
أسمع فى نفسى دبيب المنى |
|
وألمح الشّبهة فى خاطرى |
تجد أنه رسم لك صورة للأمل يتمشى فى النفس تمشيا محسّا يسمعه بأذنه. وأن الظنون والهواجس صار لها جسم يراه بعينه ؛ هل رأيت إبداعا فوق هذا فى تصويره الشك والأمل يتجاذبان؟ وهل رأيت ما كان للاستعارة البارعة من الأثر فى هذا الإبداع؟
ثم انظر قول الشريف الرضى فى الوداع :
نسرق الدّمع فى الجيوب حياء |
|
وبنا ما بنا من الأشواق |
هو يسرق الدمع حتى لا يوصم بالضعف والخور ساعة الوداع ، وقد كان يستطيع أن يقول : «نستر الدمع فى الجيوب حياء» ؛ ولكنه يريد أن يسمو إلى نهاية المرتقى فى سحر البيان ، فإن الكلمة «نسرق» ترسم فى خيالك صورة لشدة خوفه أن يظهر فيه أثر للضعف ، ولمهارته وسرعته فى إخفاء الدمع عن عيون الرقباء. ولو لا ضيق نطاق هذا الكتاب لعرضنا عليك كثيرا من صور الاستعارة البديعة ، ولكنا نعتقد أن ما قدمناه فيه كفاية وغناء.
__________________
(١) غرب السيف : حده ، وتفزعت : ذعرت أى أصابها الذعر وهو الخوف.