وإذا سمعت قوله فى رثاء المتوكل وقد قتل غيلة :
صريع تقاضاه اللّيالى حشاشة |
|
يجود بها والموت حمر أظافره (١) |
فهل تستطيع أن تبعد عن خيالك هذه الصورة المخيفة للموت ، وهى صورة حيوان مفترس ضرّجت أظافره بدماء قتلاه؟
لهذا كانت الاستعارة أبلغ من التشبيه البليغ ؛ لأنه وإن بنى على ادعاء أن المشبه والمشبه به سواء لا يزال فيه التشبيه منويّا ملحوظا بخلاف الاستعارة فالتشبيه فيها منسىّ مجحود ؛ ومن ذلك يظهر لك أن الاستعارة المرشحة أبلغ من المطلقة ، وأن المطلقة أبلغ من المجردة.
أما بلاغة الاستعارة من حيث الابتكار وروعة الخيال ، وما تحدثه من أثر فى نفوس سامعيها ، فمجال فسيح للإبداع ، وميدان لتسابق المجيدين من فرسان الكلام.
انظر إلى قوله عزّ شأنه فى وصف النار : «تكاد تميّز من الغيظ كلّما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير (٢)»؟ ترتسم أمامك النار فى صورة مخلوق ضخم بطّاش مكفهرّ الوجه عابس يغلى صدره حقدا وغيظا.
ثم انظر إلى قول أبى العتاهية فى تهنئة المهدى بالخلافة :
أتته الخلافة منقادة |
|
إليه تجرّر أذيالها |
تجد أنّ الخلافة غادة هيفاء مدلّلة ملول فتن الناس بها جميعا ، وهى تأبى عليهم وتصدّ إعراضا ، ولكنها تأتى للمهدى طائعة فى دلال وجمال تجرّ أذيالها تيها وخفرا.
__________________
(١) الصريع : المطروح على الأرض ، وتقاضاه أصله تتقاضاه حذفت إحدى التاءين ؛ وهو من قولهم تقاضى الدائن دينه إذا قبضه ، والحشاشة : بقية الروح فى المريض والجريح ؛ يصفه بأنه ملقى على الأرض يلفظ النفس الأخير من حياته.
(٢) تتميز غيظا : تتقطع غضبا على الكفرة ، وهو تمثيل لشدة اشتعالها بهم ، والفوج : الجماعة ، والاستفهام فى قوله تعالى : «أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ»؟ للتوبيخ.