بذات المتكلم ينتقض بكل ما يقوم به من العلم والقدرة والحياة ، ثم السؤال فيه باق ، لأنه إذا قيل : فهذا الذي أوجب كون المتكلم متكلما أو قام بذاته ما هو؟ فلا بدّ من الرجوع إلى ما قدّمناه من حده.
وإذا كان كلامنا مبنيا على أن الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه ، وكان أبو علي الجبّائي يذهب إلى أنّ جنس الكلام يخالف جنس الصوت ، فلا بد من بيان ما ذهبنا إليه وفساد ما عداه ، والذي يدل على أن الكلام هو الصوت الواقع على بعض الوجوه أنه لو كان غيره لجاز أن يوجد أحدهما مع عدم الآخر على بعض الوجوه ، لأن هذه القضية واجبة في كل غيرين لا تعلق بينهما ، ولمّا استحال أن توجد الأصوات المقطعة على وجه مخصوص ولا تكون كلاما ، أو الكلام من غير صوت مقطّع ، دلّ على أنه الصوت بعينه.
فأما من ذهب إلى أن الكلام معنى في النفس من المجبّرة (١) فإن الذي حملهم على هذا المذهب الواضح الفساد ظهور أدلة نظّار المسلمين (٢) على حدوث هذا الكلام المعقول ، وتقديم بعض حروفه على بعض ، فلم يتمكنوا من الاعتراف بأنه من جنس الأصوات المتقطعة ، مع القول بأن كلام الله عزّ اسمه قديم ، فادعوا لذلك أن الكلام غير هذا الصوت المسموع ، وأنه معنى قائم في النفس ، ليسوغ لهم قدمه على بعض الوجوه ، فلجأوا من الاعتراف بالحق والانقياد بزمامه إلى محض الجهل وصرف الضلال ، ولو تجنّب خطابهم على هذا القول وعوّل في إفساده على حكاية مذهبهم لأغنى ذلك عند كافّة المحصّلين ، ولم يفتقر إلى استئناف دليل عليهم غير التأمل لما يدعونه ، والعجب مما يلتزمونه ويصرّحون به ، وحمدا لله تعالى على ما أنعم به من الإرشاد ومنحه من الهداية ، لكن قد جرت عادة أهل العلم معهم بإيضاح الحق وإن كان غير خاف ، والتنبيه على الصواب وإن كان ليس بمشكل ، في جميع المذاهب التي تفرّدوا بها ، وإن جرت في البعد مجرى هذا المذهب ، فنحن نستدرك عليهم في هذه المسألة على طريقة
__________________
(١) هم من الفرقة الجبريّة التي تقول إنّ العبد مجبور وليس بمختار.
(٢) يعني أصحابه من المعتزلة القائلين : إن القرآن مخلوق وليس بقديم.