فصل في اللغة
اللغة عبارة عمّا يتواضع القوم عليه من الكلام ، أو يكون توقيفا ، يقال في لغة العرب : إنّ السيف القاطع حسام ، أي : تواضعوا على أن سمّوه هذا الاسم ، وتجمع لغة على لغات ، ولغين ولغون ، وقد قيل في اشتقاقها : إنها مشتقّة من قولهم : لغيت بالشيء ؛ إذا أولعت به وأغريت به ، وقيل : بل هي مشتقّة من اللّغو ، وهو النّطق ، ومنه قولهم : سمعت لواغي القوم أي أصواتهم ولغوت أي تكلمت ـ وأصله على هذا لغوة ، على مثال فعلة ، فأما قولهم في لغة بني تميم كذا ، وفي لغة أهل الحجاز كذا فراجع إلى ما ذكرناه ، والمعنى أن بني تميم تواضعوا على ذلك ، ولم يتواضع أهل الحجاز عليه.
والصحيح أن أصل اللغات مواضعة ، وليس بتوقيف ، وإنما أوجب ذلك لأن توقيفه تعالى يفتقر إلى الاضطرار إلى قصده ، والتكليف يمنع من ذلك ، وإنما افتقر إلى الاضطرار إلى قصده لأنه إن أحدث كلاما لم يعلم أنه قد أراد بعض المسمّيات دون بعض ، ولو اقترن بهذا الكلام إشارة إلى مسمى دون غيره ، لأنا لا نعلم توجه الكلام إلى ما توجهت الإشارة اليه ، وإنما يعلم ذلك بعضنا من بعض بالاضطرار إلى قصده ، وتخصص الإشارة بجهة المشار إليه لا يعلم بها هل الاسم للجسم ، أو للونه ، أو لغير ذلك من أحواله ، وأما إذا تقدّمت المواضعة بيننا ، وخاطبنا القديم تعالى بها ، علمنا مراده ، لمطابقة تلك اللغة ، وقد يجوز فيما يعدّ أصل اللغات أن يكون توقيفا منه تعالى : (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها) [البقرة : ٣١] على مواضعة تقدمت بين آدم عليهالسلام وبين الملائكة على لغة سالفة ممن خاطبه الله تعالى على تلك اللغة ، وعلّمه الأسماء ، ولو لا تقدّم لغة لم يفهم عنه عزّ اسمه.
وقد ظن قوم أن المواضعة بيننا تحتاج إلى إذن سمعي ، ولا حاجة لهذا القول ، إذ الدواعي إلى التخاطب وتعريف بعضنا مراد بعض قوية ، والانتفاع بذلك ظاهر ، ولا وجه فيه من وجوه القبح قبّحت حسنه ، كالتنفس في الهواء ، وكما نحس من أحدنا الإشارة