فصل في ذكر الأقوال الفاسدة في نقد الكلام
ذهب قوم من الرواة وأهل اللغة إلى تفضيل أشعار العرب المتقدمين على شعر كافة المحدثين ، ولم يجيزوا أن يلحقوا أحدا ممن تأخر زمانه بتلك الطبقة وإن كان عندهم محسنا ، واختلفوا في علة ذلك : فزعمت طائفة من جهالهم أن العلة فيه هي مجرّد التقدم في الزمان ، واستمروا في الترتيب فجعلوا الشعراء طبقات بحسب تواريخ أعصارهم ، وقال قوم منهم : السبب في ذلك أن المتقدمين سبقوا إلى المعاني في أكثر الألفاظ المؤلفة ، وفتحوا طريق الشعر ، وسلك الناس فيه بعدهم ، وجروا على آثارهم ، فلهم فضيلة السبق التي لا توازيها فضيلة ، ولا توازنها مرتبة ، وإذا كان غيرهم قد استفاد منهم وأخذ ألفاظهم وأكثر معانيهم فلن يكون في الرتبة لاحقا بهم ، وإذا كان مقصرا عنهم فشعره دون أشعارهم. وقالت طائفة أخرى : إن العلّة في تفضيل أشعار المتقدمين على أشعار المحدثين أن هذه الأشعار المتقدمة كانت تقع من قائلها بالطبع من غير تكلف ولا تصنع ، والأشعار المحدثة تقع بتكلّف وتعمل ، وما وقع بالطبع أفضل مما صدر عن التكلف ، قالوا : ولهذه العلة استدلّ بأشعار المتقدمين دون أشعار المحدثين ، واحتاج هؤلاء كلهم في نقد الشعر إلى معرفة قائله قبل أن يظهر لهم مذهب فيه ، حتى رووا عن ابن الأعرابي أنه أنشد أرجوزة أبي تمام التي أولها :
وعاذل عذلته في عذله |
|
فظن أنيّ جاهل من جهله (١) |
على أنها لبعض العرب ، فاستحسنها وأمر أحد أصحابه أن يكتبها له فلما فعل قال : إنها لأبي تمام ، فقال : خرّق. فخرقها.
__________________
(١) «ديوان أبي تمام» ٤ / ٥٣٠ ، من أرجوزة يخاطب بها صالح بن عبد الله القرشي.