يتميز ذلك اللفظ الزائد من غيره أو لا يتميز ، فإن لم يتميز فتلك الإطالة ، وإن تميز فذلك الحشو ، وإن لم يكن في الكلام ما إذا حذف بقي المعنى بحاله ، فلا يخلو من أن يكون تمكن العبارة عن ذلك المعنى بأقل من تلك الألفاظ أو لا تمكن ، فإن كان تمكن العبارة عن ذلك المعنى بأقل من ذلك اللفظ فتلك المساواة وإن كان لا تمكن العبارة عن ذلك المعنى بأقل من ذلك فذلك هو الإيجاز ، فبهذا يصح لك اعتبار الأقسام المذكورة ، ولا يخفى شيء منها على المتأمل.
ومن شروط الفصاحة والبلاغة أن يكون معنى الكلام واضحا ظاهرا جليا لا يحتاج إلى فكر في استخراجه وتأمل لفهمه ، وسواء كان ذلك الكلام الذي لا يحتاج إلى فكر منظوما أو منثورا.
وإنما احتجنا إلى التفصيل لأن أبا إسحاق إبراهيم بن هلال الصّابي غلط في هذا الموضع ، فزعم أن الحسن من الشعر ما أعطاك معناه بعد مطاولة ومماطلة ، والحسن من النثر ما سبق معناه لفظه ، ففرق بين النظم والنثر في هذا الحكم ، ولا فرق بينهما ولا شبهة تعترض المتأمل في ذلك.
والدليل على صحة ما ذهبنا إليه أنا قد بينّا أن الكلام غير مقصود في نفسه ، وإنما احتيج إليه ليعبّر الناس به عن أغراضهم ، ويفهموا المعاني التي في نفوسهم ، فإذا كانت الألفاظ غير دالة على المعاني ولا موضحة لها فقد رفض الغرض في أصل الكلام ، وكان ذلك بمنزلة من يصنع سيفا للقطع ويجعل حده كليلا ، ويعمل وعاء لماء يريد أن يحرزه فيقصد إلى أن يجعل فيه خروقا تذهب ما يوعى فيه ، فإنّ هذا مما لا يعتمده عاقل ، ثم لا يخلو أن يكون المعبر عن غرضه بالكلام يريد إفهام ذلك المعنى أو لا يريد إفهامه ، فإن كان يريد إفهامه فيجب أن يجتهد في بلوغ هذا الغرض بإيضاح اللفظ ما أمكنه ، وإن كان لا يريد إفهامه فليدع العبارة عنه فهو أبلغ في غرضه.