وإذا كان هذا مفهوما فالأسباب التي لأجلها يغمض الكلام على المسامع ستة : اثنان منها في اللفظ بانفراده ، واثنان في تأليف الألفاظ بعضها مع بعض ، واثنان في المعنى.
فأما اللذان في اللفظ بانفراده فأحدهما : أن تكون الكلمة غريبة كما ذكرنا فيما تقدم من وحشى اللغة العربية ، والآخر : أن تكون الكلمة من الأسماء المشتركة في تلك اللغة ، كالصدى الذي هو العطش والطائر والصوت الحادث في بعض الأجسام.
وأما اللذان في تأليف الألفاظ فأحدهما : فرط الإيجاز ، كبعض الكلام الذي يروى عن بقراط في علم الطب ، والآخر : إغلاق النظم ، كأبيات المعاني من شعر أبي الطيب المتنبي وغيره ، وكما يروى من كلام أرسطو طاليس في المنطق.
وأما اللذان في المعنى ، فأحدهما : أن يكون في نفسه دقيقا ، ككثير من مسائل الكلام في اللطيف ، والآخر : أن يحتاج في فهمه إلى مقدمات إذا تصورت بني ذلك المعنى عليها ، فلا تكون المقدمات حصلت للمخاطب فلا يقع له فهم المعنى. كالذي يريد فهم فروع الكلام والنحو وغيرهما من العلوم قبل الوقوف على الأصول التي بنيت تلك الفروع عليها.
وإذا كان هذا واضحا فإن استعمال الألفاظ الغريبة الوحشية نقص في الفصاحة التي هي الظهور والبيان على ما قدمنا من ذلك فيما مضى من كتابنا هذا. فاما استعمال الألفاظ المشتركة كالصدى فإنه يحسن في فصيح الكلام إذا كان في اللفظ دليل على المقصود ، مثل قول أبي الطيب :
ودع كل صوت دون صوتي فإنني |
|
أنا الطائر المحكي والآخر الصّدى (١) |
فإن الصدى هاهنا لا يشكل بالصدى الذي هو العطش ، ولا يسبق ذلك إلى فهم أحد من السامعين ، فأما إن كان ذلك في موضع يشكل فليس ذلك بموافق للفصاحة.
__________________
(١) «ديوان المتنبي» (٢ / ١٢٦).