وأما السببان اللذان في التأليف ؛ وهما : إفراط الإيجاز وإغلاق اللفظ ، فمن شروط الفصاحة والبلاغة أن يسلم الكلام منهما ، لما قدمناه من الدلالة على ذلك.
وأما السببان اللذان في المعاني ، وهما : دقة المعنى في نفسه وحاجته إلى الإحاطة بأصل قد بني عليه ، فليس في أن يجعل المعنى الدقيق ظاهرا جليا جلّه للمعبر عنه ، لكن يحتاج أن يحسن العبارة عنه ويبالغ في إيضاح الدلالة ، ليكون ما في المعنى من الدقة واللطافة بإزاء ما في العبارة عنه من الظهور والفصاحة ، وكذلك يحتاج السامع إلى إحكام الأصل قبل أن يقصد إلى فهم الفرع ، ويحتاج المخاطب إلى ذكر المقدمات إذا كان غرضه أن يفهم المخاطب كلامه.
فإن قيل : فما تقولون في تأخير البيان عن وقت الخطاب ، أيجوز عندكم أم لا يجوز؟ فإن منعتم من جوازه كان قولكم مطّردا ، وإن أجزتموه فما وجه إنكاركم إغلاق اللفظ ومطالبتكم بإيضاح المعنى وبيان المراد مع قولكم بتأخير البيان عن وقت الخطاب؟ قيل : الجواب أنا لا نذهب إلى أن كل أمر يؤثر في الفصاحة وتعتبر سلامة أعلى طبقاتها منه غير جائز في الإستعمال ولا سائغ في الكلام ، وكيف نقول ذلك وقد قدمنا أن شروط الفصاحة أن تكون الكلمة مبنية من حروف متباعدة المخارج وغير كثيرة الحروف ، ومع ذلك فألفاظ العرب المبنية من الحروف المتقاربة المخارج والكثيرة الحروف أكثر من أن تحصى ، وقد استعملوا تلك الألفاظ في الفصيح من كلامهم ـ وكذلك إذا قلنا : من شروط الفصاحة الإيجاز ـ لم يكن ذلك منعا لجواز الإسهاب ولا رفضا لاستعماله ، وإنما مقصودنا أن هذا النحو أحسن من هذا النحو ، وبهذا الوجه يستدل على الفصاحة أكثر من هذا الوجه ، فإذا كان هذا بينا ، فلو قلنا بجواز تأخير البيان عن وقت الخطاب لم يكن ذلك مناقضا لقولنا إن مقارنة البيان لوقت الخطاب أحسن ، وإلى حيز الفصاحة والبلاغة أقرب ؛ لأنا لا نتكلم في هذا الموضوع على الجائز والممتنع ، وإنما كلامنا على الأفصح والأحسن ، على أن من منع من جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إنما علل ذلك لأنه