محصّل ، على أن من يطلق هذا القول لا يخلو من أن يكون أطلقه عن علم أو عن غير علم ، فإن كان أطلقه عن غير علم فلا حجّة في إطلاقه ، وإن كان عن علم لم يخل أن يكون ضروريا أو مكتسبا ، فإن كان ضروريا وجب اشتراك العقلاء فيه ولم يحسن الخلاف بينهم ، وليس الأمر كذلك ، وإن كان مستدلا عليه فالواجب إيراد الدليل الذي اقتضى إطلاق هذه العبارة ليقع النظر فيه.
وبعد : فإن الانسان قد يطلق أيضا فيقول : في نفسي بناء دار ، ونسج ثوب ، كما يقول : في نفسي كلام ، فهل يدل ذلك على أن البناء والنساجة معنيان في النفس ، كما دلّ عندهم على أن الكلام معنى فيها؟ ثم إنّ لقول القائل : في نفسي كلام وجها صحيحا ، وذلك أن المعنى : أني عازم عليه ومريد له ، ولهذا لو أبدلوا هذا اللفظ مما ذكر لقام مقامه في الفائدة ، وأما تعلقهم بأن الساكت يقال فيه : إنه متكلم ، فليس بصحيح ؛ لأن المراد بذلك إمكان الكلام منه ، أو إضافته إليه على طريق الصناعة ، كما يقال للصانع في حال هو لا يصوغ فيها : إنه صائغ ، وكذلك سائر الصنّاع ، ثم هو مع ذلك استدلال بالمعاني على العبارات وقد بينا فساد ذلك فيما تقدم.
والكلام مما لا يوجب حالا للمتكلم ، إذ لا طريق إلى إثبات ذلك من ضرورة أو استدلال ، ولا فرق بين من ادّعى في الكلام أنه يوجب حالا وبين من ادّعى ذلك في جميع الأفعال كالضرب وغيره ، وأيضا فإن الكلام يوجد في الصدر ونكون نحن المتكلمين به ، ومن شأن ما ينفصل عن الحي ألّا يوجب له حالا ، ولأن كل ما أوجب للحيّ حالا لا يصح وجوده في محل لا حياة فيه كالعلم والقدرة ، والكلام يتعلق بالمعاني والفوائد بالمواضعة ، لا لشيء من أحواله وهو قبل المواضعة ، إذ لا اختصاص له ، ولهذا جاز في الاسم الواحد أن تختلف مسمّياته لاختلاف اللغات ، وهو بعد وقوع التواضع يحتاج إلى قصد المتكلم له واستعماله فيما قررته المواضعة ، ولا يلزم على هذا أن تكون المواضعة لا تأثير لها ، لأن فائدة القصد أن تتعلق تلك العبارة بالمأمور ، وتؤثر في كونه أمرا به ، فالمواضعة تجري مجرى شحذ السكين وتقويم الآلات ، والقصد يجري مجرى استعمال الآلات بحسب ذلك الإعداد.