وفسّر له معناه بالرومية ، فلم يعجبه ، وقال كلاما معناه : ما أكذب هذا الرجل! كيف يمكن أن يناخ جمل على عين إنسان؟ وما أحسب أنّ العلة فيما ذكرته عن النقل إلى غير اللغة العربية منها وتباين ذلك ، إلا أن لغتنا فيها من الاستعارات والألفاظ الحسنة الموضوعة ما ليس مثله في غيرها من اللغات ، فإذا نقلت لم يجد الناقل ما يتوصل به إلى نقل تلك الألفاظ المستعارة بعينها ، وعلى هيئتها ، لتعذر مثلها في اللغة التي تنقل إليها ، والمعاني لا تتغير ، فنقلها ممكن من غير تبديل ، فكأن ما ينتقل من اللغة العربية يتغير حسنه لهذه العلة ، وما ينتقل إليها يمكن الزيادة على طلاوته ، لأن ناقله يجد ما يعبّر به في العربية أفضل مما يريد ، وأبلغ مما يحاول ، وهذا وجه يمكن ذكر مثله ، ويجب أن يتأمل وينظر فيه ، لأني لا أعرف لغة سوى العربية ، وإنما ذهبت إليه ظنا وحدسا ، وقد تصرّف في هذه اللغة بما لم أظنه تصرف في غيرها من اللغات ، فلم توجد إلا طيّعة عذبة في كل ما استعمل فيه نظما ونثرا ، وهي إلى الآن لا تقف على غاية في ذلك ، ولا تصل إلى نهاية كما قال أبو تمام في هذا المعنى :
ولكنّه صوب العقول إذا انجلت |
|
سحائب منه أعقبت بسحائب (١) |
وقد بيّنت فضلها بسعتها ، وما فيها من الاختصار في العبارة عن المعاني ، وذكرت وجه التفضيل بالاختصار ، مما لا شبهة فيه.
فأما السعة فالأمر فيها أيضا واضح ، لأن الناظم أو الناثر إذا حظر عليه موضع إيراد لفظة ، وكانت اللغة التي ينسج منها ذات ألفاظ كثيرة ، تقع موقع تلك اللفظة في المعنى ، أخذ ما يليق بالموضع من غير عنت ولا مشقة ، وهذا غير ممكن لو لا السعة في كثرة الأسماء للمسمى الواحد ، وتلك فائدة في بعض المواضع ، مثل أن يحتاج الناطق إلى كلام يؤثر أن يكنى فيه ولا يصرح ، فيقول لفظة ويوهم بها معنى قد قصد غيره ، وهذا وإن قلّ الدّاعي إليه إلا في اليسير من المواضع ، فلم تجعل اللغة العربية خالية منها ،
__________________
(١) «ديوان أبي تمام» ، (ط دار المعارف) ١ / ٢١٤ في مدح أبي دلف العجلي.