سوءا عندما أصابنى الهذيان أياما عدة ، وكان يمكن لصحتى أن تتدهور تماما ، لو لا عون القبطان اليونانى الذى كان زميل سفر لى ، اعتبارا من بلدة سواكن فى السودان. لقد شملنى ذلك القبطان برعايته فى فترة من أشد فترات مرضى ، وقام الرجل بناء على طلبى ، بإحضار حلاق ، أو بالأحرى طبيب الأرياف ، الذى شلّح مواضع جسمى لاستنزاف كمية كبيرة من الدم ، على الرغم من تردده ورفضه ، لأنه كان يرى أن علاجى الوحيد البديل عن استنزاف الدم ، هو محلول من الخل وجوزة الطيب والقرفة. وخلال أسبوعين أصبحت قادرا على الحركة ، ولكن الضعف الذى اعترانى والوهن الذى رافق الحمى لم يستسلما للجو الحار الرطب فى جدة ، وأنا أعرف أن شفائى التام كان بفضل مناخ الطائف المعتدل ؛ والطائف تقع فى الجبال الواقعة خلف مكة ، وقد انتقلت بعد ذلك إليها.
سوق جدة يشبه إلى حد ما الأسواق الزنجية ، التى يمكن فيها شراء مؤن وتموينات تكفى أسبوعين أو ثلاثة أسابيع بدولار واحد فقط ، وهذه المؤن تقتصر على الذرة والزبد. أسعار السلع هنا ارتفعت ارتفاعا كبيرا إلى مستويات غير عادية ؛ نظرا لتوقف الواردات التى تأتى من داخل الجزيرة العربية توقفا تاما هنا ، فى الوقت الذى يكسب السكان كلهم بما فيهم أرباب الأسر المحترمة ، طوال مقامهم فى الحجاز ، عن طريق العمل اليدوى ، لكنى قبل اللجوء إلى هذا الملاذ الأخير كنت قد فكرت فى تجربة الانتقال إلى مكان آخر. واقع الأمر أنى كنت قد أحضرت معى رسالة تقديم وتزكية من محمد المحروقى (*) ، التاجر الأول فى القاهرة ، إلى عربى الجيلانى ، أغنى تجار جدة ، لكنى كنت أعلم أن تلك الرسالة كانت عديمة الجدوى ، نظرا لأنها لم تكن خطاب ائتمان ؛ ولذلك آثرت عدم تقديم الرسالة لذلك الجيلانى (**). قررت مؤخرا التحدث إلى الباشا ، محمد على نفسه. كان محمد على باشا قد وصل إلى الحجاز فى أواخر
__________________
(*) الشيخ المحروقى هو شيخ مشايخ التجار فى القاهرة. (المراجع)