دوكيه ، والإخوة ساوة ، كانت هذه الحفنة الصغيرة من النصارى الذين جمعتهم المصادفة حول تابوت ، يشكلون وحدهم الجماعة التي تشيّع هذا المسيحي الذي قضى نحبه في ديار المسلمين. لقد حذرونا من تطرف العامة ؛ ولكنهم (العامة) بدوا على العكس خلال مرورنا هادئين ، ومحتشمين ، وتكاد تبدو عليهم علائم الوقار (١).
خرجنا من باب اليمن ، وبعد أن اجتزنا سهلا رمليا يغمره البحر في حالة المد ، وصلنا إلى مقبرة صغيرة مسوّرة ، ومخصصة للأوروبيين (٢) الذين يدركهم الموت في هذه البلاد البعيدة. وكان ينقص مراسم التشييع الوقار والخشوع. لم يكن المتوفى إبّان حياته محترما أو محبوبا ، ومع أن الموت يطهر الذكريات ، ويخمد الأضغان ، فإن مصير القنصل لم يكن في ساعة الموت يوحي بالرثاء الذي يستحقه. ومهما يكن الدور الذي أديناه في الحياة فإنه مصير محزن أن يدركنا الموت بعيدا عن الوطن والأهل ، محاطين بمن لا يهمهم أمرنا وبالأجانب ، وأن نقول ونحن نلفظ الأنفاس الأخيرة : " أموت بعيدا وليس حولي صديق ليغلق جفنيّ ، ويبكي عليّ".
__________________
(١) هذا التحذير من الجماعة ليس له ما يسوّغه ؛ إذ المشروع أن نحترم الجنازة مهما كانت ، ولعل حديث قيام الرسول صلىاللهعليهوسلم لجنازة اليهودي عندما مرت أمامه في المدينة المنورة دليل على ذلك. إذ ورد في سنن أبي داود ، باب القيام للجنازة قوله : حدثني جابر قال : كنا مع النبي صلىاللهعليهوسلم إذ مرت بنا جنازة فقام لها : فلما ذهبنا لنحمل إذا هي جنازة يهودي ، فقلنا : يا رسول الله! إنما هي جنازة يهودي ، فقال : " إن الموت فزع فإذا رأيتم جنازة فقوموا".
(٢) يقول بوركهارت في رحلاته ... ، موثق سابقا ، ص ١٩١ : " ... إذا مات شخص مسيحي هناك ، فمن غير المسموح به أن يدفن على الشاطئ ، وإنما يحمل جثمانه إلى جزيرة رملية صغيرة في الميناء ..." ، انظر سابقا الحاشية رقم (١٦٨) وخروج ديدييه وأصحابه من باب اليمن يعني أن المقبرة جنوب جدة.