وكنت استحى أن يسمع أحد ما كنت أخرجه من الأصوات المنكرة التى تشبه الحشرجة فكنت أضع على (الفرس) ما يكتم أنفاس الأوتار ويحيلها خافتة ـ أخفقت والسلام ولا داعى لنشر هذه الذكرى المطوية التى لا يعلم من أمرها شيئا سوى القدامى من إخوان ذلك الزمان وكان الذى أغرانى بالموسيقى إنى شكوت إلى طبيب حاذق ما أتوهمه من اصطلاح العلل والأمراض على فأراد أن يصرفنى قليلا عن القراءة ويشغلنى عن هذه الأوهام فأشار على أن أدرس الموسيقى.
ـ عودة لحكاية عن فخرى البارودى :
ولم أسمع فى حلب شيئا من الموسيقى على شدة حب أهلها لها وكثرة المعازف فيها ، ولكنى التقيت بحلبى عند الصديق فخرى البارودى ، بعد ارتدادى عن فلسطين وهو ضخم جدا وعرضه كطوله (تقريبا) وثيابه أكسية عجيبة من نسج القفاطين ، اتخذ منها سراويل ودراعة وفوق هاتيك معطف من صوف يصل إلى القدمين ، وعلى رأسه عمامة أو ما يشبهها ولم اشك حين رأيته فى أنه أهل العلم بالموسيقى والتبحر فيها فما يختلف إلى فخرى إلا الراسخون فى هذا العلم ، وتربع فخرى على عرشه ونقر نقرتين ثم أمر بتوشيح قديم لا أعرفه ولم اسمع به ، ففض الرجل معطفه وبدا فى ثيابه المخططة الزاهية وأنشأ يغنى بصوت لا حلو ولا مطرب ولكن الإيقاع فيه جيد ، وكان يضرب بجمع إحدى يديه فى كف الأخرى ليضبط التوقيت أو (الوحدة) كما يسمونها ثم حمس وأخذته فانتفض واقفا وجعل يرقص رقصا توقيعيا على نغمات الصوت الذى يغنيه فكدنا من فرط الطرب ننهض مثله ونفعل كما يفعل.