وبعد الإحياء اتّخذوا العجل إلها من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة ، والأدلّة القاهرة على يد موسى عليهالسلام في بلاد مصر ، وما كان من إهلاك عدوّهم فرعون وجميع جنوده في اليمّ ، فما جاوزوه إلا يسيرا حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، فقالوا لموسى : (اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ). وذكر تعالى قصة اتّخاذهم العجل في سورة الأعراف الآية (١٥٢) ، وفي سورة طه (٨٨) بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله عزوجل ، ولما رجع إليهم تابوا مما صنعوا ، فقتل بعضهم بعضا ، قتل من لم يعبد العجل منهم من عبده ، ثم أحياهم الله عزوجل ، فعفا عنهم حين تابوا ، وآتى الله موسى سلطانا مبينا ، أي سلطة ظاهرة وحجّة قويّة بيّنة واضحة ، كالعصا وفلق البحر واليد البيضاء. وسمّيت سلطانا ؛ لأن من جاء بها قاهر بالحجّة ، وهي قاهرة القلوب ، بأن تعلم أنه ليس في قوى البشر أن يأتوا بمثلها.
وكانت توبتهم بقتل بعضهم بعضا حتى قيل لهم : كفّوا ، فكان ذلك شهادة للمقتول وتوبة للحيّ ، كما قال تعالى في سورة البقرة : (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة ٢ / ٥٤].
وكان من عجائب أحوالهم وأساليب تأديبهم أن الله تعالى رفع فوقهم جبل الطور ، كأنه ظلّة ، وقد كانوا في واديه ، وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة ، وأبوا إطاعة ما جاء به موسى عليهالسلام ، فكان عقابهم بسبب ميثاقهم الذي أخذه الله عليهم أن يعملوا بما أنزل إليهم بقوّة وإخلاص.
ثم ألزموا بالطاعة فالتزموا وسجدوا ، وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم ، كما قال تعالى : (وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ، خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ) [الأعراف ٧ / ١٧١].