ثم كان من كرم الله تعالى وجوده ولطفه ورحمته مع هذا الكذب والافتراء أنه يدعوهم إلى التوبة والمغفرة ، بأن يتوبوا من شركهم ، ويستغفروا الله من عقيدة التثليث ، والله غفور للتائبين رحيم بهم.
أما المسيح في الحقيقة فهو مجرد رسول ، كأمثاله من الرسل المتقدمين عليه ، وأنه عبد من عباد الله كما قال تعالى : (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ ، وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ) [الزخرف ٤٣ / ٥٩] وهو كغيره من الرسل مؤيد بالمعجزات الخارقة للعادة : (إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ) [النساء ٤ / ١٧١].
وأمه صدّيقة ، أي مؤمنة به مصدقة له ، لها مرتبة تلي مرتبة الأنبياء والمرسلين ، وليست بنبية (١) ولا لها صفة الألوهية ، كما قال تعالى : (وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ) [التحريم ٦٦ / ١٢].
وكل من المسيح وأمه من جنس البشر ونوعهم ، بدليل أنهما يأكلان الطعام للحفاظ على معيشتهما وحياتهما ، ويقضيان حاجتهما من البول والغائط ، ومن صدر منه مثل ذلك ، واتصف بالتركيب والضعف والحاجة إلى الطعام والشراب والنوم وقضاء الحاجة ، لا يمكن أن يكون إلها ، ولا أن يتصف بأي صفة من صفات الألوهية والربوبية.
فانظر أيها العاقل كيف نبين للنصارى الجهلة الدلائل القاطعة الواضحة على بطلان ما يدّعون ، ثم انظر بعد هذا البيان والإيضاح كيف يصرفون عن التأمل بهذه الأدلة ، وأين يذهبون ، وبأي قول يتمسكون.
__________________
(١) ليست مريم نبية ، كما زعم ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة أم إسحاق ، ونبوة أم موسى ، ونبوة أم عيسى ، استذلالا بخطاب الملائكة لسارة ومريم ، وبقوله تعالى : وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وهذا معنى النبوة. والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبيا إلا من الرجال ، قال الله تعالى : وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى.