(وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) بينك وبين الهجرة الحاسمة جذورهم بالجهاد ، وبينهم وبين قتلهم أو موتهم إلى عذاب النار وبئس القرار.
فلقد كان صبره جميلا على طول الخط ، وامهاله القليل جميلا ، وكله بأخلاقه وتصرفاته جميلا أينما كان ، فحق له قول الله (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ).
فحمل الرسالة الإلهية وتنفيذها ببلاغها بحاجة إلى صبر جميل : صمودا واستقامة للوصول إلى المغزى في سبيلها الشاق الطويل ، فالصبر للرسول ـ هكذا ـ زاد وعتاد ، وجنة وسلاح ، وملجأ وملاذ ، بجانب ما عنده من وسائل الدعوة وتدابيرها ، صبرا مع النفس وشهواتها وانحرافاتها وضعفها وشرودها وعجلتها وقنوطها ، وصبرا مع أعداء الدعوة وكيدهم ، وصبرا مع المؤمنين ، على قلتهم ، وقلة صبرهم ، وكثرة استعجالهم ، وصبرا مع عامة النفوس التي لا تخلو من تسرعات في حق أو باطل.
(وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً) ولو مهلتهم عمر الدنيا فهو قليل ، فكيف بأعمارهم التي ليست إلا قليلا في قليل ، وكيف بإمهالهم إلى زمن الهجرة وهو أقل من القليل ، فلتصبر هنا وهناك صبرا جميلا ، ولتمهلهم قليلا :
(إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً).
فلدينا من أنكال ما ليس لديك مهما كان نكالك عليهم شديدا.
إن أنكال النار وقيودها وأغلالها هي هي التي قدموها لأنفسهم يوم الدنيا إذ كانوا أنكالا في سبيل الله ، وكانت عليهم أغلال الشهوات فاثّاقلوا إلى الأرض ورضوا بالحياة الدنيا من الآخرة ، فأكملت شهواتهم يوم الدنيا ، ثم ظهرت أنكالا يوم الدين جزاء وفاقا.
(طَعاماً ذا غُصَّةٍ) : الذي يمزق الحلوق ويحرق الحناجر ، كما كانت حياتهم غصة وكان الحق شجى في حلوقهم ، كما كانوا شجى في حلوق المؤمنين وقذى في أعينهم ، وبصيغة شاملة كانت حياتهم عذابا أليما على الدعوة والداعين والمدعوين ،