(كَلَّا) إنه لا برهان على استحالة جمع العظام إلا حب العاجلة ، فتذرون الآخرة ، و «حب الدنيا رأس كل خطيئة» وطول الأمل في الأولى ، كذلك ينسي الآخرة.
إن حب العاجلة يخلف وجوها باسرة ، وحب الآجلة وجوها ناضرة ، إلى ربها ناظرة :
(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ. تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ).
تقسيم ثنائي لأهل الموقف إلى وجوه ناضرة ناظرة ، وأخرى باسرة فاقرة :
فما هذه الوجوه؟ وما هو النظر إلى الرب؟.
الوجه ما يواجه به صاحبه ويواجه به ، فهو من الإنسان لمثله وجهه الظاهر ، فنظره نظر البصر ، وهو من الكائنات كلها ـ ومنها الإنسان لله تعالى : ذواتها ، ما ظهر منها وما بطن ، إذ لا يعزب عنه شيء.
وهنا ، نسبة الظن إلى الوجوه الباسرة ، والنظر إلى الرب للوجوه الناضرة ، هذه النسبة وتلك تصرفها عن وجوه الأبصار إلى وجوه البصائر ، فالوجه الظاهر لا يظن ، وإنما يبصر ، والبصر الظاهر لا ينظر إلى الرب ذاته إذ (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (٦ : ١٠٣) وإنما البصيرة الباطنة هي التي تراه رؤية المعرفة ، دون كيفية ولا إحاطة ، وكما عن الرسول الأقدس (ص) في تفسير الآية : «ينظرون إلى ربهم بلا كيفية ولا حدود ولا صفة معلومة» (١) ونظر البصر إلى أي مبصر ، له كيفيات وحدود وصفات معلومة ، إضافة إلى أن النظر لا يستلزم الإبصار : (تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ) (٧ : ١٩٨) وأحرى بعدم الإبصار إذا كان المنظور إليه غير مبصر!.
__________________
(١) الدر المنثور ٦ : ٢٩٠ ـ أخرجه ابن مردويه عن انس بن مالك قال : قال رسول الله (ص).