ولو كان البذل محصورا في حصار التجارات : جزاء أو شكورا ، أصبح الكثير من ذوي الحاجة محرومين ، ولو كان مقرونا بمنّ أو أذى انقلب عارا في أنفس المحتاجين ، ولكنه اشترط في الإنفاق أن يكون مما نحب وبطريقة حبيبة بعيدة عن المنّ وعن بغية الجزاء والشكور ، وعن لمحات توحي بوهن ومهانة للمعطى ، واستعظام للمعطي ، ولكي يصبح الإنفاق كأنه من يد الله دون وسيط ، ويا له إنفاقا عزيزا رفيقا يصاحب حيوية العاطفة ويحافظ على حساسية القلوب.
وهل إنهم خاطبوا مسكينا ويتيما وأسيرا هكذا : إنما نطعمكم .. قولة في آذانهم؟ ولا نلمس هنا نقل قول : (قالُوا إِنَّما ..) ولا ان في قول اللسان رجحان ، وقد يكون نقصانا من روحانية الإطعام وإخلاصه ف والله ما قالوا هذا لهم ولكنهم أضمروه في أنفسهم فأخبر الله بإضمارهم ، يقولون : لا نريد جزاء تكافوننا به ، ولا شكورا تثنون علينا به ، ولكنا إنما أطعمناكم لوجه الله وطلب ثوابه» (١) : ومن أثوب ثوابه معرفته ومرضاته وهذه عبادة الأحرار!. فليست إذا قولة في الآذان ، وإنما قالوا في أنفسهم قولا بليغا ، فإطعام الطعام هكذا ـ مع ما تصحبه من ملابسات ـ تنفي الرئاء وسائر وجوه النية السيئة ، وإنه تعبير عبير في أنفس المحاويج عن (إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ ...) دون قولة باللسان ، فالتلميح أبلغ من التصريح : (لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً) : لا مكافأة ولا إظهارا بثناء جميل ، أو تلميحا للناس أن ذلك من فلان وفلان ، فان شكر النعمة وشكورها هو إظهارها قلبا أو لسانا أو عملا ، ف «إنما» هناك تنفي كل غاية من هذا الإطعام إلا وجه الله ، لا واقع الجزاء والشكور فهم رافضوه ، ولا إرادته أو نيته فهم مترفعون عنها ، وإنما ارادة وجه الله لا سواه.
__________________
(١) امالي الصدوق عن الصادقين (ع) في حديث طويل عن القصة.