مجالا أن يعملوا للآجلة ، ليوم ثقيل بأوزارهم التي قدموها ، فبدل أن يجعلوا هذا اليوم الأمام إمامهم : يذكرونه ويعملون له ، إنهم يذرونه وراءهم ظهريا كأنه لا يأتيهم ، وإنما العاجلة أمامهم وإمامهم ، يبصرون إليه فيعميهم ، ولا يبصرون به ليبصّرهم : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) (٣٠ : ٧) غرقى في عاجلة الدنيا الخفيفة التي تمضي على أية حال ، وغافلين عن الآجلة الثقيلة البعيدة المدى : ثقيلة بخلودها ، ثقيلة بنتائجها ، ثقيلة بحسابها ، فيا لهم من غفوة وغفلة شملتهم وأعمتهم وجنّتهم ، حياتا صبيانية زهيدة حمقاء!
(نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً) :
لفتة تذكر هؤلاء الغافلين المعتزين بقوتهم ، المعتزمين التغافل طول حياتهم ، تذكّرهم بمبتدئهم ومنتهاهم : فقد صدروا بخلقهم وشدة أسرهم ـ : ربطهم الموثق ، ـ صدروا من الخلاق الحكيم ، أسرا وربطا موثقا بين الروح والجسم ، وبين أجزاء كلّ منهما ، وبينهما وبين العالم الخارجي ، وبينهما وبين الله تعالى بما فطر الإنسان على معرفته ، وسوف يبقى أسر الروح بجسمها إذ يتلاقيان يوم المعاد ، فويل هذا الإنسان إذ يجعل نفسه في أسر الشهوات ، ويفك أسره ووثاقه عن ربه!.
بدأوا من الله وليسوا بمعجزيه ، وإذا شاء بدّلهم أمثالهم (١) : أمثالهم في المادة والصورة ، كأن يفنيهم ويأتي بخلق جديد : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) (١٤ : ١٩) (فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ. عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ) (٧٠ : ٤٠ ـ ٤٣).
__________________
(١). بدّل يقتضى مفعولين ، ذكر ثانيهما «أمثالهم» وحذف الأول «هم». بدلناهم أمثالهم.