فإن قلت : لم رفع اسم الله ، والله يتعالى أن يكون ممن في السماوات والأرض؟ قلت:جاء على لغة بنى تميم ، حيث يقولون : ما في الدار أحد إلا حمار ، يريدون : ما فيها إلا حمار ، كأنّ أحدا لم يذكر. ومنه قوله :
عشيّة ما تغنى الرّماح مكانها |
|
ولا النّبل إلّا المشرفي المصمّم (١) |
وقولهم : ما أتانى زيد إلا عمرو ، وما أعانه إخوانكم إلا إخوانه. فإن قلت : ما الداعي إلى اختيار المذهب التميمي على الحجازي؟ قلت : دعت إليه نكتة سرية (٢). حيث أخرج المستثنى مخرج قوله : إلا اليعافير ، بعد قوله : ليس بها أنيس ، ليؤول المعنى إلى قولك : إن كان الله ممن في السماوات والأرض ، فهم يعلمون الغيب ، يعنى : أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم ، كما أنّ معنى ما في البيت (٣) : إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس ، بتا للقول بخلوّها عن الأنيس. فإن قلت : هلا زعمت أنّ الله ممن في السماوات والأرض ، كما يقول المتكلمون : الله في كل مكان ، على معنى أنّ علمه في الأماكن كلها ، فكأن ذاته فيها حتى لا تحمله على مذهب بنى تميم؟ قلت : يأبى ذلك أن كونه في السماوات والأرض مجاز ، وكونهم فيهن حقيقة ، وإرادة المتكلم بعبارة واحدة حقيقة ومجازا غير صحيحة ، على أنّ قولك : من في السماوات والأرض ، وجمعك بينه وبينهم في إطلاق اسم واحد : فيه إيهام تسوية ، والإيهامات مزالة عنه وعن صفاته تعالى. ألا ترى كيف قال صلى الله عليه وسلم لمن قال : ومن يعصهما فقد غوى : «بئس خطيب القوم أنت (٤)» وعن عائشة رضى الله عنها : من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية (٥) ، والله تعالى يقول : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ
__________________
(١) النبل : السهام العربية. والمشرفي : السيف ، نسبة لمشارف اليمن. والمصمم : الماضي النافذ لصلابته ، وكانت عادة المتحاربين التناضل بالسهام عند التباعد ، فإذا تقاربوا تحاربوا بالرماح ، فإذا التقوا تضاربوا بالسيوف. وذكر النبل بعد الرماح لدفع توهم بعد العدو ، فكأن النبل يغنى عن غيره ، فالبيت كناية عن شدة الأمر واختلاط الصفين. وضمير مكانها للحرب أو للسيوف ، والاستثناء منقطع بعد النفي ، ويجب نصبه عند الحجازيين. ويجوز رفعه كما هنا عند التميميين : إما على البدل ، أو على توهم أن المستثنى منه غير مذكور ، وأن العامل مفرغ لما بعد «إلا».
(٢) قوله «دعت إليه نكتة سرية» لعله بزنة فعيلة ، فيكون بمعنى شريفة. (ع)
(٣) قوله : «معنى ما في البيت» هو قول الشاعر :
وبلدة ليس بها أنيس |
|
إلا اليعافير وإلا العيس (ع) |
(٤) أخرجه مسلم من حديث عدى بن حاتم.
(٥) متفق عليه من حديثها في أثناء حديث.