بها للتبكيت لا غير. وذلك أنهم لم يعملوا إلا التكذيب ، فلا يقدرون أن يكذبوا ويقولوا قد صدّقنا بها وليس إلا التصديق بها أو التكذيب. ومثاله أن تقول لراعيك ـ وقد عرفته رويعي سوء ـ : أتأكل نعمى ، أم ما ذا تعمل بها؟ فتجعل ما تبتدئ به وتجعله أصل كلامك وأساسه هو الذي صحّ عندك من أكله وفساده ، وترمى بقولك : أم ما ذا تعمل بها ، مع علمك أنه لا يعمل بها إلا الأكل ، لتبهته (١) وتعلمه علمك بأنه لا يجيء منه إلا أكلها ، وأنه لا يقدر أن يدعى الحفظ والإصلاح ، لما شهر من خلاف ذلك. أو أراد : أما كان لكم عمل في الدنيا إلا الكفر والتكذيب بآيات الله ، أم ما ذا كنتم تعملون من غير ذلك؟ يعنى أنه لم يكن لهم عمل غيره ، كأنهم لم يخلقوا إلا للكفر والمعصية ، وإنما خلقوا للإيمان والطاعة : يخاطبون بهذا قبل كبهم في النار ثم يكبون فيها ، وذلك قوله (وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) يريد أن العذاب الموعود يغشاهم بسبب ظلمهم. وهو التكذيب بآيات الله ، فيشغلهم عن النطق والاعتذار ، كقوله تعالى (هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ).
(أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ)(٨٦)
جعل الإبصار للنهار وهو لأهله. فإن قلت : ما للتقابل لم يراع في قوله (لِيَسْكُنُوا) و (مُبْصِراً) حيث كان أحدهما علة والآخر حالا؟ قلت : هو مراعى من حيث المعنى ، وهكذا النظم المطبوع غير المتكلف ، لأن معنى مبصرا : ليبصروا فيه طرق التقلب في المكاسب.
(وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ)(٨٧)
فإن قلت : لم قيل (فَفَزِعَ) دون فيفزع؟ قلت : لنكتة وهي الإشعار بتحقق الفزع وثبوته وأنه كائن لا محالة ، واقع على أهل السماوات والأرض ، لأنّ الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به. والمراد فزعهم عند النفخة الأولى حين يصعقون (إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ) إلا من ثبت الله قلبه من الملائكة ، قالوا : هم جبريل ، وميكائيل ، وإسرافيل ، وملك الموت ـ عليهم السلام. وقيل : الشهداء. وعن الضحاك : الحور ، وخزنة النار ، وحملة العرش. وعن جابر : منهم موسى عليه السلام ، لأنه صعق مرّة. ومثله قوله تعالى (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللهُ). وقرئ : أتوه. وأتاه. ودخرين ، فالجمع
__________________
(١) قوله «لتبهته» أى تدهشه وتحيره (ع)