البلاد بإضافة اسمه إليها ، لأنها أحبّ بلاده إليه ، وأكرمها عليه ، وأعظمها عنده. وهكذا قال النبي صلى الله عليه وسلم حين خرج في مهاجره ، فلما بلغ الحزورة (١) استقبلها بوجهه الكريم فقال : «إنى أعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله. ولو لا أن أهلك أخرجونى ما خرجت» (٢) وأشار إليها إشارة تعظيم لها وتقريب ، دالا على أنها موطن نبيه ومهبط وحيه. ووصف ذاته بالتحريم الذي هو خاص وصفها ، فأجزل بذلك قسمها في الشرف والعلو ، ووصفها بأنها محرّمة لا ينتهك حرمتها إلا ظالم مضادّ لربه (وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) لا يختلى خلاها ، ولا يعضد شجرها (٣) ، ولا ينفر صيدها. واللاجئ إليها آمن. وجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخولها تحتهما. وفي ذلك إشارة إلى أن ملكا ملك مثل هذه البلدة عظيم الشأن قد ملكها وملك إليها كل شيء (٤) : اللهم بارك لنا في سكناها ، وآمنا فيها شرّ كل ذى شرّ ، ولا تنقلنا من جوار بيتك إلا إلى دار رحمتك. وقرئ : التي حرّمها. واتل عليهم هذا القرآن : عن أبىّ وأن أتل : عن ابن مسعود. (فَمَنِ اهْتَدى) باتباعه إياى فيما أنا بصدده من توحيد الله ونفى الأنداد عنه ، والدخول في الملة الحنيفية ، واتباع ما أنزل علىّ من الوحى ، فمنفعة اهتدائه راجعة إليه لا إلىّ (وَمَنْ ضَلَ) ولم يتبعني فلا علىّ ، وما أنا إلا رسول منذر ، وما على الرسول
__________________
(١) قوله «فلما بلغ الحزورة» هي تل صغير كما في الصحاح. (ع)
(٢) أخرجه الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وابن أبى شيبة والدارمي وعبد بن حميد والبزار وأبو يعلى والبيهقي في الدلائل. كلهم من رواية الزهري عن أبى سلمة عن عبد الله بن عدى بن الخيار قال «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا على الحزورة وهو يقول : والله إنك لخير أرض الله إلى الله وأحب أرض الله إلى الله. ولو لا أنى أخرجت منك ما خرجت» هكذا رواه عقيل ويونس وشعيب وصالح بن كيسان عنه. ورواه ابن أخى الزهري عن عمه عن محمد بن جبير بن مطعم عن عبد الله بن عدى بن الخيار : أخرجه الطبراني. وصححه الدارقطني لوجهين. ورواه النسائي وإسحاق والبزار والبيهقي في الدلائل من رواية معمر عن الزهري عن أبى سلمة عن أبى هريرة. ولفظه للبيهقي «ولو لا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت» قال البزار : تفرديه معمر هكذا. وقال البيهقي : وهم فيه معمر وقال الترمذي : رواه محمد بن عمر بن أبى سلمة عن أبى سلمة عن أبى هريرة. وقول الزهري عن أبى سلمة عن عبد الله بن عدى أصح. وقال البيهقي أيضا : ورواية محمد بن عمرو وهم. وفي الباب عن ابن عباس. أخرجه الترمذي من رواية ابن خثيم عن سعيد بن جبير وأبى الطفيل جميعا فيه نحو «ما أطيبك من يلد وأحبك إلىّ. ولو لا أن قومي أخرجونى منك ما سكنت غيرك».
(٣) قوله «لا يختلى خلاها ... الخ» : أى لا يجز حشيشها ، ولا يقطع شجرها. (ع)
(٤) قال محمود : «المراد بالبلدة مكة وإضافة اسم الله تعالى إليها لتشريفها وذكر تحريمها ، لأنه أخص أوصافها وأسنده إلى ذاته تأكيدا لشرفها ثم قال : (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) ، فجعل دخول كل شيء تحت ربوبيته وملكوته كالتابع لدخول هذه البلدة المعظمة. وفي ذلك إشارة إلى أن ملكا قد ملك هذه البلدة المكرمة وملك إليها كل شيء إنه لعظيم الشأن» قال أحمد : وتحت قوله (وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ) : فائدة أخرى سوى ذلك ، وهي أنه لما أضاف اسمه إلى البلدة المخصوصة تشريفا لها ، أتبع ذلك إضافة كل شيء سواها إلى ملكه ، قطعا لتوهم اختصاص ملكه بالبلدة المشار إليها ، وتنبيها على أن الاضافة الأولى إنما قصد بها التشريف ، لا لأنها ملك الله تعالى خاصة ، والله أعلم.