فيه من حديث زينب من غير قصد وعدل في القول ، والبعث على أن يسد قولهم (١) في كل باب ؛ لأنّ حفظ اللسان وسداد القول رأس الخير كله. والمعنى : راقبوا الله في حفظ ألسنتكم ، وتسديد قولكم ، فإنكم إن فعلتم ذلك أعطاكم الله ما هو غاية الطلبة ؛ من تقبل حسناتكم والإثابة عليها ، ومن مغفرة سيئاتكم وتكفيرها. وقيل إصلاح الأعمال التوفيق في المجيء بها صالحة مرضية وهذه الآية مقرّرة للتي قبلها ، بنيت تلك على النهى عما يؤذى رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ، وهذه على الأمر باتقاء الله تعالى في حفظ اللسان ، ليترادف عليهم النهى والأمر ، مع اتباع النهى ما يتضمن الوعيد من قصة موسى عليه السلام ، وإتباع الأمر الوعد البليغ فيقوى الصارف عن الأذى والداعي إلى تركه. لما قال (وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ) وعلق بالطاعة الفوز العظيم ، أتبعه قوله (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ) وهو يريد بالأمانة الطاعة ، فعظم أمرها وفخم شأنها ، وفيه وجهان ، أحدهما : أنّ هذه الأجرام العظام من السماوات والأرض والجبال قد انقادت لأمر الله عز وعلا انقياد مثلها ـ وهو ما يتأتى من الجمادات ـ وأطاعت له الطاعة التي تصح منها وتليق بها ـ حيث لم تمتنع على مشيئته وإرادته إيجادا وتكوينا وتسوية على هيآت مختلفة وأشكال متنوعة ، كما قال (قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ) وأما الإنسان فلم تكن حاله ـ فيما يصح منه من الطاعات ويليق به من الانقياد لأوامر الله ونواهيه ، وهو حيوان عاقل صالح للتكليف ـ مثل حال تلك الجمادات فيما يصح منها ويليق بها من الانقياد وعدم الامتناع ، والمراد بالأمانة : الطاعة ، لأنها لازمة الوجود ، كما أن الأمانة لازمة الأداء. وعرضها على الجمادات وإباؤها وإشفاقها : مجاز. وأما حمل الأمانة فمن قولك : فلان حامل للأمانة ومحتمل لها ، تريد : أنه لا يؤديها إلى صاحبها حتى تزول عن ذمّته ويخرج عن عهدتها ؛ لأن الأمانة كأنها راكبة للمؤتمن عليها وهو حاملها. ألا تراهم يقولون : ركبته الديون ، ولى عليه حق ، فإذا أداها لم تبق راكبة له ولا هو حاملا لها. ونحوه قولهم ، لا يملك مولى لمولى نصرا. يريدون : أنه يبذل النصرة له ويسامحه بها ، ولا يمسكها كما يمسكها الخاذل. ومنه قول القائل :
أخوك الّذى لا تملك الحسّ نفسه |
|
وترفضّ عند المحفظات الكتائف (٢) |
أى لا يمسك الرقة والعطف إمساك المالك الضنين ما في يده ، بل يبذل ذلك ويسمح به. ومنه قولهم ابغض حق أخيك؟ لأنه إذا أحبه لم يخرجه إلى أخيه ولم يؤده ، وإذا أبغضه أخرجه وأدّاه ،
__________________
(١) قوله «على ان يسد قولهم» في الصحاح : سد قوله يسدّ ـ بالكسر ـ : أى صار سديدا. (ع)
(٢) للقطامى. وقبل : لذي الرمة. وحس له حسا : رق له وعطف. والحس أيضا : العقل والتدبير والنظر في العواقب ، والارفضاض من الترشرش والتناثر ، وأحفظه إحفاظا : أغضبه ، فالمحفظات : المغضبات. والكتائف : جمع كتيفة ، وهي الضغينة والحقد. يقول : أخوك هو الذي لا تملك نفسه الرحمة ، بل يبذلها لك. أو لا تقدر نفسه على التدبر بالتأنى ، بل يسرع إليك بغتة وترتعد وتذهب ضغائنه من جهتك عند الأمور المغضبة لك ، لأنها تغضبه أيضا.