فمعنى : فأبين أن يحملنها وحملها الإنسان ، فأبين إلا أن يؤدينها وأبى الإنسان إلا أن يكون محتملا لها لا يؤديها. ثم وصفه بالظلم لكونه تاركا لأداء الأمانة ، وبالجهل لإخطائه ما يسعده مع تمكنه منه وهو أداؤها. والثاني : أن ما كلفه الإنسان بلغ من عظمه وثقل محمله : أنه عرض على أعظم ما خلق الله من الأجرام وأقواه وأشدّه : أن يتحمله ويستقل به ، فأبى حمله والاستقلال به وأشفق منه ، وحمله الإنسان على ضعفه ورخاوة قوّته (إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً) حيث حمل الأمانة ثم لم يف بها ، وضمنها ثم خاس (١) بضمانه فيها ، ونحو هذا من الكلام كثير في لسان العرب. وما جاء القرآن إلا على طرقهم وأساليبهم من ذلك قولهم : لو قيل للشحم : أين تذهب؟ لقال : أسوى العوج ، وكم وكم لهم من أمثال على ألسنة البهائم والجمادات. وتصوّر مقاولة الشحم محال ، ولكن الغرض أنّ السمن في الحيوان مما يحسن قبيحه ، كما أن العجف مما يقبح حسنه ، فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع ، وهي به آنس وله أقبل ، وعلى حقيقته أوقف ، وكذلك تصوير عظم الأمانة وصعوبة أمرها وثقل محملها والوفاء بها. فإن قلت : قد علم وجه التمثيل في قولهم للذي لا يثبت على رأى واحد : أراك تقدم رجلا وتؤخر أخرى ، لأنه مثلت حاله ـ في تميله وترجحه بين الرأيين وتركه المضي على أحدهما ـ بحال من يتردد في ذهابه فلا يجمع رجليه للمضى في وجهه. وكل واحد من الممثل والممثل به شيء مستقيم داخل تحت الصحة والمعرفة ، وليس كذلك ما في هذه الآية ، فإن عرض الأمانة على الجماد وإباءه وإشفاقه محال في نفسه ، غير مستقيم ، فكيف صح بناء التمثيل على المحال ، وما مثال هذا إلا أن تشبه شيئا والمشبه به غير معقول. قلت : الممثل به في الآية وفي قولهم : لو قيل للشحم أين تذهب. وفي نظائره مفروض ، والمفروضات تتخيل في الذهن كما المحققات : مثلت حال التكليف في صعوبته وثقل محمله بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات والأرض والجبال لأبين أن يحملنها وأشفقن منها. واللام في (لِيُعَذِّبَ) لام التعليل على طريق المجاز ، لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة ، كما أن التأديب في ضربته للتأديب نتيجة الضرب. وقرأ الأعمش. ويتوب ، ليجعل العلة قاصرة على فعل الحامل ، ويبتدئ : ويتوب الله (٢). ومعنى قراءة العامة : ليعذب الله حامل الأمانة ويتوب على غيره ممن لم يحملها ، لأنه إذا تيب على الوافي كان ذلك نوعا من عذاب الغادر ، والله أعلم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه ، أعطى الأمان من عذاب القبر (٣)».
__________________
(١) قوله «ثم خاس بضمانه فيها» في الصحاح : خاس به يخيس ويخوس ، أى : غدر به يقال : خاص بالعهد ، إذ نكث. (ع)
(٢) قوله «ويتوب» أى بالرفع ، كما في النسفي. (ع)
(٣) أخرجه الثعلبي وابن مردويه من حديث أبى بن كعب رضى الله عنه.