ذلك عن ابن مسعود أي ذات عروق ، وروي عن عكرمة وكذا ابن عباس أنه قال «أمشاج» أطوار أي ذات أطوار فإن النطفة تصير علقة ثم مضغة وهكذا إلى تمام الخلقة ونفخ الروح وقوله تعالى (نَبْتَلِيهِ) حال من فاعل خلقنا والمراد مريدين ابتلاءه واختباره بالتكليف فيما بعد على أن الحال مقدرة أو ناقلين له من حال إلى حال ومن طور إلى طور على طريقة الاستعارة لأن المنقول يظهر في كل طهور ظهورا آخر كظهور نتيجة الابتلاء والامتحان بعده. وروي نحوه عن ابن عباس وعلى الوجهين ينحل ما قيل إن الابتلاء بالتكليف وهو يكون بعد جعله (سَمِيعاً بَصِيراً) لا قبل فكيف يترتب عليه قوله سبحانه (فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً) وقيل الكلام على التقديم والتأخير والجملة استئناف تعليلي أي فجعلناه سميعا بصيرا لنبتليه وحكي ذلك عن الفراء وعسف لأن التقديم لا يقع في حاق موقعه لا لفظا لأجل الفاء ولا معنى لأنه لا يتجه السؤال قبل الجعل والأوجه الأول ، وهذا الجعل كالمسبب عن الابتلاء لأن المقصود من جعله كذلك أن ينظر الآيات الآفاقية والأنفسية ويسمع الأدلة السمعية فلذلك عطف على الخلق المقيد به بالفاء ورتب عليه قوله تعالى (إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ) لأنه جملة مستأنفة تعليلية في معنى لأنا هديناه أي دللناه على ما يوصله من الدلائل السمعية كالآيات التنزيلية والعقلية كالآيات الآفاقية والأنفسية وهو إنما يكون بعد التكليف والابتلاء (إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً) حالان من مفعول هدينا وإما للتفصيل باعتبار تعدد الأحوال مع اتحاد الذات أي هديناه ودللناه على ما يوصل إلى البغية في حالتيه جميعا من الشكر والكفر أو للتقسيم للمهدي باختلاف الذوات والصفات أي هديناه السبيل مقسوما إليها بعضهم شاكر بالاهتداء للحق وطريقه بالأخذ فيه وبعضهم كفور بالأعراض عنه وحاصله دللناه على الهداية والإسلام فمنهم مهتد مسلم ومنهم ضال كافر وقيل حالان من السبيل أي عرفناه السبيل إما سبيلا شاكرا وإما سبيلا كفورا على وصف السبيل بوصف سالكه مجازا والمراد به لا يخفى وعن السدي أن السبيل هنا سبيل الخروج من الرحم وليس بشيء أصلا وقرأ أبو السمال وأبو العاج (١) أما بفتح الهمزة في الموضعين وهي لغة حكاها أبو زيد عن العرب وهي التي عدها بعض الناس على ما قال أبو حيان في حروف العطف وأنشدوا :
تلقحها إما شمال عرية |
|
وإما صبا جنح العشي هبوب |
وجعلها الزمخشري أما التفصيلية المتضمنة معنى الشرط على معنى (إِمَّا شاكِراً) فبتوفيقنا (وَإِمَّا كَفُوراً) فبسوء اختياره وهذا التقدير إبراز منه للمذهب قيل ولا عليه أن يجعله من باب (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً) [البقرة : ٢٦] كأنه قيل (إِمَّا شاكِراً) فبهدايتنا أي دعائنا أو أقدارنا على ما فسر به الهداية (وَإِمَّا كَفُوراً) فبها أيضا لاختلاف وجه الدعاء لأن الهداية هاهنا ليست في مقابلة الضلال وهذا جار على المذهبين وسالم عن حذف ما لا دليل عليه ، وجوز في الانتصاف أن يكون التقدير (إِمَّا شاكِراً) فمثاب (وَإِمَّا كَفُوراً) فمعاقب وإيراد الكفور بصيغة المبالغة لمراعاة الفواصل والإشعار بأن الإنسان قلما يخلو من كفران ما ، وإنما المؤاخذ عليه الكفر المفرط (إِنَّا أَعْتَدْنا) هيأنا (لِلْكافِرِينَ) من أفراد الإنسان الذي هديناه السبيل (سَلاسِلَ) بها يقادون (وَأَغْلالاً) بها يقيدون (وَسَعِيراً) بها يحرقون وتقديم وعيدهم مع تأخرهم للجمع بينهما في الذكر كما في قوله تعالى (يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) [آل عمران : ١٠٦] الآية ولأن الإنذار أنسب بالمقام وحقيق بالاهتمام ولأن تصدير الكلام وختمه بذكر المؤمنين أحسن على أن وصفهم تفصيلا ربما يخل تقديمه بتجارب أطراف النظم الكريم. وقرأ نافع
__________________
(١) قوله وأبو العاج وهو كثير بن عبد الله السلمي شامي ولي البصرة لهشام بن عبد الملك.