للانتفاع بها ولاختل أمر سكناهم إياها وهو تأويل مناف للظواهر لا يحتاج إليه ما لم يقم الدليل القطعي على محالية إرادة الظاهر. نعم قيل : إن هذا أقرب للتقرير فإن جعلها أوتادا بهذا المعنى أظهر من جعله كذلك بذلك المعنى وأقرب إلى العلم به ، وربما يقال إنه أوفق لترك إعادة العامل ومن لا يراه يجعل النكتة فيه قوة ما بين الأرض والجبال من الاشتراك والارتباط فافهم. (وَخَلَقْناكُمْ) عطف على المضارع المنفي بلم داخل في حكمه فإنه في قوة إما جعلنا إلخ أو على ما يقتضيه الإنكار التقريري فإنه في قوة أن يقال قد جعلنا إلخ والالتفات إلى الخطاب هنا بناء على القراءة المشهورة في (سَيَعْلَمُونَ) للمبالغة في الإلزام والتبكيت (أَزْواجاً) قال الزجاج وغيره مزدوجين ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل وينتظم أمر المعاش ، وقيل : أصنافا في اللون والصورة واللسان ، وقيل : يجوز أن يكون المراد من الخلق أزواجا الخلق من منيين مني الرجل ومني المرأة خلقنا كل واحد منكم أزواجا باعتبار مادته التي هي عبارة عن منيين فيكون (خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً) من قبيل مقابلة الجمع بالجمع وتوزيع الأفراد على الأفراد وهو خلاف الظاهر جدا ولا داعي إليه (وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً) أي كالسبات ففي الكلام تشبيه بليغ كما تقدم ، والمراد بالسبات الموت وقد ورد في اللغة بهذا المعنى ووجه تشبيه النوم به ظاهر وعلى ذلك قوله تعالى (وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ) [الأنعام : ٦٠] وهو على بناء الأدواء مشتق من السبت بمعنى القطع لما فيه من قطع العمل والحركة ، ويقال : سبت شعره إذا حلقه وأنفه إذا اصطلمه. وزعم ابن الأنباري كما في الدرر أنه لم يسمع السبت بمعنى القطع وكأنه كان أصم. وقيل : أصل السبت التمدد كالبسط يقال سبت الشعر إذا حل عقاصه وعليه تفسير السبات بالنوم الطويل الممتد والامتنان به لما فيه من عدم الانزعاج ، وجوز بعضهم حمله على النوم الخفيف بناء على ما في القاموس من إطلاقه عليه على أن المعنى جعلنا نومكم نوما خفيفا غير ممتد فيختل به أمر معاشكم ومعادكم وفي البحر سباتا أي سكونا وراحة. يقال : سبت الرجل إذا استراح. وزعم ابن الأنباري أيضا عدم سماع سبت بهذا المعنى ورد عليه المرتضى بأنه أريد الراحة اللازمة للنوم وقطع الإحساس فإن في ذلك راحة القوى الحيوانية مما عراها في اليقظة من الكلال ، ومنه سمّي اليوم المعروف سبتا لفراغ وراحة لهم فيه ، وقيل : سمّي بذلك لأن الله تعالى ابتدأ بخلق السماوات والأرض يوم الأحد فخلقها في ستة أيام كما ذكر عزوجل فقطع عمله سبحانه يوم السبت فسمّي بذلك واختار المحققون كون السبات هنا بمعنى الموت لأنه أنسب بالمقام كما لا يخفى (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ) الذي يقع فيه النوم غالبا (لِباساً) يستركم بظلامه كما يستركم اللباس ، ولعل المراد بهذا اللباس المشبه به ما يستتر به عند النوم من اللحاف ونحوه فإن شبه الليل به أكمل واعتباره في تحقيق المقصد أدخل. واختار غير واحد إرادة الأعم وأن المعنى جعلناه ساترا لكم عن العيون إذا أردتم هربا من عدو أو بياتا له أو خفاء ما لا تحبون الاطّلاع عليه من كثير من الأمور. وقد عد المتنبي من نعم الليل البيات على الأعداء والفوز بزيارة المحبوب واللقاء مكذبا ما اشتهر من مذهب المانوية من أن الخير منسوب إلى النور والشر إلى الظلمة بالمعنى المعروف فقال :
وكم لظلام الليل عندي من يد |
|
تخبر أن المانوية تكذب |
وقاك ردى الأعداء تسري إليهم |
|
وزارك فيه ذو الدلال المحجب |
وقال بعضهم : يمكن أن يحمل كون الليل كاللباس على كونه كاللباس لليوم في سهولة إخراجه ومنه ولا يخفى بعده ومما يقضي منه العجب استدلال بعضهم بهذه الآية على أن من صلّى عريانا في ليل أو ظلمة فصلاته صحيحة.