الراكب والمتتابعات يكون أحدها خلف الآخر فليس في الآية ما يدل على خروج الكفرة من النار وعدم خلودهم فيها لمكان فهم التتابع في الاستعمال ، وصيغة القلة لا تنافي عدم التناهي إذ لا فرق بين تتابع الأحقاب الكثيرة إلى ما لا يتناهى ، وتتابع الأحقاب القليلة كذلك. وقيل : إن الصيغة هنا مشتركة بين القلة والكثرة إذ ليس للحقب جمع كثرة فليرد بها بمعونة المقام جمع الكثرة وتعقب بثبوت جمع الكثرة له وهو الحقب كما ذكر الراغب والذي رأيته في مفرداته أن الحقب أي بكسر الحاء وفتح القاف الحقبة المفسرة بثمانين عاما نعم قيل إنه ينافيه ما ورد أنه يخرج أناس من أهل النار من النار ويقربون من الجنة حتى إذا استنشقوا ريحها ورأوا ما أعد الله تعالى لعباده المؤمنين فيها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها فيردون إلى النار بحسرة ما رجع الأولون والآخرون بمثلها وتعقب بأنه إن صح إنما ينافيه لو كان الخروج حقبا تاما ، أما لو كان في بعض أجزاء الحقب فلا لبقاء تتابع الأحقاب جملة سلمنا لكن هذا الإخراج الذي يستعقب الرد لزيادة التعذيب كاللبث في النار أشد والكلام من باب التغليب وليس فيه الجمع بين الحقيقة والمجاز. ثم إن وجد أن في الآية ما يقتضي الدلالة على التناهي والخروج من النار ولو بعد زمان طويل فهو مفهوم معارض بالمنطوق الصريح بخلافه كآيات الخلود. وقوله تعالى (وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ) [المائدة : ٣٧] إلى غير ذلك وإن جعل قوله تعالى (لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً إِلَّا حَمِيماً وَغَسَّاقاً) حالا من المستكن في (لابِثِينَ) فيكون قيدا للبث فيحتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلا حميما وغساقا ، ثم يكون لهم بعد الأحقاب لبث على حال آخر من العذاب. وكذا إن جعل (أَحْقاباً) منصوبا ب (لا يَذُوقُونَ) قيدا له إلّا أن فيه بعدا ومثله لو جعل (لا يَذُوقُونَ فِيها) إلخ صفة ل (أَحْقاباً) وضمير (فِيها) لها لا لجهنم لكنه أبعد من سابقه. وقيل المراد بالطاغين ما يقابل المتقين فيشمل العصاة والتناهي بالنظر إلى المجموع وهو كما ترى. وقوله مقاتل إن ذلك منسوخ بقوله تعالى (فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً) فاسد كما لا يخفى. وجوز أن يكون (أَحْقاباً) جمع حقب كحذر من حقب الرجل إذا أخطأه الرزق ، وحقب العام إذ قل مطره وخيره. والمراد محرومين من النعيم وهو كناية عن كونهم معاقبين فيكون حالا من ضمير (لابِثِينَ) وقوله تعالى (لا يَذُوقُونَ) صفة كاشفة أو جملة مفسرة لا محل لها من الإعراب وهو على ما ذكر أولا جملة مبتدأة خبر عنهم. والمراد بالبرد ما يروحهم وينفس عنهم حر النار فلا ينافي أنهم قد يعذبون بالزمهرير ، والشراب معروف ، والحميم الماء الشديد الحرارة ، والغساق ما يقطر من جلود أهل النار من الصديد أي لا يذوقون فيه شيئا ما من روح ينفس عنهم حر النار ولا من شراب يسكن عطشهم لكن يذوقون ماء حارا وصديدا. وفي الحديث «إن الرجل منهم إذا أدنى ذلك من فيه سقط فروة وجهه حتى يبقى عظاما تقعقع» وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن البرد الشراب البارد المستلذ. ومنه قول حسان بن ثابت :
يسقون من ورد البريص عليهم |
|
بردا (١) يصفق بالرحيق السلسل |
وقول الآخر :
أمانيّ من سعدى حسان كأنما |
|
سقتك بها سعدى على ظما بردا |
فيكون (وَلا شَراباً) من نفي العام بعد الخاص. وقال أبو عبيدة والكسائي والفضل بن خالد ومعاذ
__________________
(١) قوله بردا النحويون ينشدون بيت حسان بردى بفتح الراء والدال بعدها ألف التأنيث وهو نهر بدمشق اه منه.