إنك إذا قلت «لم يلبثوا إلّا عشية أو ضحى» احتمل أن تكون العشية من يوم والضحى من آخر فيتوهم الاستمرار من ذلك الزمان إلى مثله من اليوم الآخر ، أما إذا قلت عشيته أو ضحاه لم يحتمل ذلك البتة وفي قولك ضحى تلك العشية ما يغني عن قولك عشية ذلك النهار أو ضحاه. وقال الطيبي : إنه من المحتمل أن يراد بالعشية أو الضحى كل اليوم مجازا ، فلما أضيف أفاد التأكيد ونفي ذلك الاحتمال وجعله من باب رأيته بعيني وهو حسن ولكن السابق أبعد من التكلف ولا منع من الجمع وزاد الإضافة حسنا كون الكلمة فاصلة واعتبر جمع كون اللبث في الدنيا وبعضهم كونه في القبور وجوز كونه فيهما واحتار في الإرشاد ما قدمنا وقال : إن الذي يقتضيه المقام اعتبار كونه بعد الإنذار أو بعد الوعيد تحقيقا للإنذار وردا لاستبطائهم والجملة على الوجه الأول حال من الموصول كأنه قيل : تنذرهم مشبهين يوم يرونها في الاعتقاد بمن لم يلبث بعد الإنذار بها إلّا تلك المدة اليسيرة ، وعلى الثاني مستأنفة لا محل لها من الإعراب ، هذا ولا يخفى عليك أن الوجه الثاني وإن كان حسنا في نفسه لكنه مما لا يتبادر إلى الفهم وعليه يحسن الوقف على (فِيمَ) ثم يستأنف أنت من ذكراها لئلا يلبس وقيل إن قوله تعالى (فِيمَ) إلخ متصل بسؤالهم على أنه بدل من جملة يسألونك إلخ أو هو بتقدير القول أي يسألونك عن زمان قيام الساعة ويقولون لك في أي مرتبة (أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي علمها أي ما مبلغ علمك فيها أو يسألونك عن ذلك قائلين لك في أي مرتبة أنت إلخ. والجواب عليه قوله تعالى (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) ولا يخفى ضعف ذلك. وأخرج البزار وابن جرير وابن المنذر وابن مردويه والحاكم وصححه عن عائشة قالت : ما زال رسول الله صلىاللهعليهوسلم يسأل عن الساعة حتى أنزل الله تعالى عليه (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) فانتهى عليه الصلاة والسلام فلم يسأل بعدها. وأخرج النسائي وغيره عن طارق بن شهاب قال : كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم يكثر ذكر الساعة حتى نزلت (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) فكف عنها وعلى هذا فهو تعجيب من كثرة ذكره صلىاللهعليهوسلم لها كأنه قيل في أي شغل واهتمام أنت من ذكرها والسؤال عنها ، والمعنى أنهم يسألونك عنها فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها وتسأل عنها ونظر فيه ابن المنير بأن قوله عزوجل (يَسْئَلُونَكَ) كأنك وقت إدراكه مستقرا له فتدبر.
وقوله تعالى (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) إنكار ورد لسؤال المشركين عنها أي في أي شيء أنت من أن تذكر لهم وقتها وتعلمهم به حتى يسألوك بيانها كقوله تعالى (يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها) [الأعراف : ١٨٧] فالاستفهام للإنكار و (فِيمَ) خبر مقدم و (أَنْتَ) مبتدأ مؤخر و (مِنْ ذِكْراها) على تقدير مضاف أي ذكرى وقتها متعلق بما تعلق به الخبر وقيل (فِيمَ) إنكار لسؤالهم وما بعده استئناف تعليل للإنكار وبيان لبطلان السؤال أي فيم هذا السؤال ثم ابتدئ فقيل (أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) أي إرسالك وأنت خاتم الأنبياء المبعوث في نسم الساعة علامة من علامتها ودليل يدلهم على العلم بوقوعها عن قريب فحسبهم هذه المرتبة من العلم ، فمعنى قوله تعالى (إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها) على هذا الوجه إليه تعالى يرجع منتهى علمها أي علمها بكنهها وتفاصيل أمرها ووقت وقوعها لا إلى أحد غيره سبحانه وإنما وظيفتهم أن يعلموا باقترابها ومشارفتها وقد حصل لهم ذلك بمبعثك فما معنى سؤالهم عنها بعد ذلك؟ وأما على الوجه الأول فمعناه إليه عزوجل انتهاء علمها ليس لأحد منه شيء كائنا ما كان فلأي شيء يسألونك عنها. وقوله تعالى (إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها) عليه تقرير لما قبل من قوله سبحانه (فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها) وتحقيق لما هو المراد منه وبيان لوظيفته عليه الصلاة والسلام في ذلك الشأن فإن إنكار كونه صلىاللهعليهوسلم في شيء من ذكراها مما يوهم بظاهره أن