أن الله تعالى نجّى المؤمنين وإنما أحرق سبحانه الكافرين يقول هنا المراد وهم على ما يريدون فعله بالمؤمنين شهود ، وأيّا ما كان ففي المؤمنين تغليب والمراد (بِالْمُؤْمِنِينَ) والمؤمنات ومن الغريب الذي لا يلتفت إليه ما قيل إن أصحاب الأخدود عمرو بن هند المشهور بمحرق ومن معه حرق مائة من بني تميم وضمير (هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ) لكفار قريش الذين كانوا يفتنون المؤمنين والمؤمنات (وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ) أي ما أنكروا منهم وما عابوا. وفي مفردات الراغب يقال : نقمت الشيء إذا أنكرته بلسانك أو بعقوبة. وقرأ زيد بن علي وأبو حيوة وابن أبي عبلة «وما نقموا» بكسر القاف والجملة عطف على الجملة الاسمية وحسن ذلك على ما قيل كون تلك الاسمية لوقوعها في حيز إذ ماضوية فكان العطف عطف فعلية على فعلية. وقيل إن هذه الفعلية بتقدير وهم ما نقموا منهم (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) استثناء مفصح عن براءتهم عما يعاب وينكر بالكلية على منهاج قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم |
|
بهن فلول من قراع الكتائب |
وكون الكفرة يرون الإيمان أمرا منكرا والشاعر لا يرى الفلول كذلك لا يضر على ما أرى في كون ذلك منه عزوجل جاريا على ذلك المنهاج من تأكيد المدح بما يشبه الذم ، ثم إن القوم إن كانوا مشركين فالمنكر عندهم ليس هو الإيمان بالله تعالى بل نفي ما سواه من معبوداتهم الباطلة وإن كانوا معطّلة فالمنكر عندهم ليس إلّا إثبات معبود غير معهود لهم لكن لما كان مآل الأمرين إنكار المعبود بحق الموصوف بصفات الجلال والإكرام عبر بما ذكر مفصحا عما سمعت فتأمل. ولبعض الأعلام كلام في هذا المقام قد رده الشهاب فإن أردته فارجع إليه. وفي المنتخب إنما قال سبحانه (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا) لأن التعذيب إنما كان واقعا على الإيمان في المستقبل ولو كفروا فيه لم يعذبوا على ما مضى فكأنه قال عزوجل : إلّا أن يدوموا على إيمانهم انتهى. وكأنه حمل النقم على الإنكار بالعقوبة ، ووصفه عزوجل بكونه عزيزا غلبا يخشى عقابه وحميدا منعما يرجى ثوابه ، وتأكيد ذلك بقوله سبحانه (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) للإشعار بمناط إيمانهم. وقوله تعالى (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) وعد لهم ووعيد لمعذبيهم فإن علم الله جل شأنه الجامع لصفات الجلال والجمال بجميع الأشياء التي من جملتها أعمال الفريقين يستدعي توفير جزاء كل منهما ولكونه تذييلا لذلك واللائق به الاستقلال جيء فيه بالاسم الجليل دون الضمير (إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) أي محنوهم في دينهم ليرجعوا عنه والمراد بالذين فتنوا وبالمؤمنين والمؤمنات المفتونين ، أما أصحاب الأخدود والمطروحون فيه خاصة وأما الأعم ، ويدخل المذكورون دخولا أوليا وهو الأظهر. وقيل : المراد بالموصول كفار قريش الذين عذبوا المؤمنين والمؤمنات من هذه الأمة بأنواع من العذاب وقوله تعالى (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) قال ابن عطية : يقوي أن الآية في قريش لأن هذا اللفظ فيهم أحكم منه في أولئك الذين قد علم أنهم ماتوا على كفرهم ، وأما قريش فكان فيهم وقت نزولها من تاب وآمن ، وأنت تعلم أن هذا على ما فيه لا يعكر على أظهرية العموم والظاهر أن المراد ثم لم يتوبوا من فتنهم (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) أي بسبب فتنهم ذلك (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) وهو نار أخرى زائدة الإحراق كما تنبئ عنه صيغة فعيل لعدم توبتهم ومبالاتهم بما صدر منهم. وقال بعض الأجلة : أي (فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ) بسبب كفرهم فإن فعلهم ذلك لا يتصور من غير الكافر (وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) بسبب فتنهم المؤمنين والمؤمنات وفي جعل ذلك جزاء الفتن من الحسن ما لا يخفى. وتعقب بأن عنوان الكفر لم يصرح به في جانب الصلة وإنما المصرح به الفتن وعدم التوبة فالأظهر اعتبارهما