اسْتَغْنى) مفعولا من أجله أي يطغى لأن رأى نفسه مستغنيا على أن جملة (اسْتَغْنى) مفعول ثان لرأى لأنه بمعنى علم ولذلك ساغ كون فاعله ومفعوله ضميري واحد نحو علمتني فقد قالوا إن ذلك لا يكون في غير أفعال القلوب وفقد وعدم ، وذهب جماعة إلى أن رأى البصرية قد تعطى حكم القلبية في ذلك وجعلوا منه قول عائشة : لقد رأيتنا مع رسول الله صلىاللهعليهوسلم وما لنا طعام إلّا الأسودان. وأنشدوا :
ولقد أراني للرماح دريئة |
|
من عن يميني تارة وأمامي |
فإذا جعلت رأى هنا بصرية فالجملة في موضع الحال ، وتعليل طغيانه برؤيته لا بنفس الاستغناء كما ينبئ عنه قوله تعالى (وَلَوْ بَسَطَ اللهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ) [الشورى : ٢٧] للإيذان بأن مدار طغيانه زعمه الفاسد على الأول ومجرد رؤيته ظاهر الحال من غير روية وتأمل في حقيقته على الثاني ، وعلى الوجهين المراد بالاستغناء الغنى بالمال أعني مقابل الفقر المعروف. وقيل المراد أن رأى نفسه مستغنيا عن ربه سبحانه بعشيرته وأمواله وقوته وهو خلاف الظاهر ، ويبعده ظاهر ما روي أن أبا جهل قال لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : أتزعم أن من استغنى طغى فاجعل لنا جبال مكة ذهبا وفضة لعلنا نأخذ منها فنطغى فندع ديننا ونتبع دينك. فنزل جبريل عليهالسلام فقال : إن شئت فعلنا ذلك ثم إن لم يؤمنوا فعلنا بهم ما فعلنا بأصحاب المائدة ، فكف رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن الدعاء إبقاء عليهم. وقرأ قنبل بخلاف عنه «أن رأه» بحذف الألف التي بعد الهمزة وهي لام الفعل وروى ذلك عنه ابن مجاهد وغلطه فيه وقال : إن ذلك حذف لا يجوز وفي البحر ينبغي أن لا يغلطه بل يتطلب له وجها وقد حذفت الألف في نحو من هذا قال :
وصاني العجاج فيمن وصني
يريد وصاني فحذف الألف وهي لام الفعل وقد حذفت في مضارع رأى في قولهم أصاب الناس جهد لو تر أهل مكة ، وهو حذف لا ينقاس لكن إذا صحت الرواية وجب القبول فالقراءات جاءت على لغة العرب قياسها وشاذها. وقوله تعالى (إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) تهديد للطاغي وتحذير له من عاقبة الطغيان ، والخطاب قيل للإنسان والالتفات للتشديد في التهديد وجوز أن يكون الخطاب لسيد المخاطبين صلىاللهعليهوسلم. والمراد أيضا تهديد الطاغي وتحذيره ولعله الأظهر نظرا إلى الخطابات قبله والرجعى مصدر بمعنى الرجوع كالبشرى والألف فيها للتأنيث ، وتقديم الجار والمجرور عليه للقصر أي إن إلى ربك رجوع الكل بالموت والبعث لا إلى غيره سبحانه استقلالا أو اشتراكا فترى حينئذ عاقبة الطغيان. وفي هذه الآيات على ما قيل إدماج التنبيه على مذمة المال كما أن في الآيات الأول إدماج التنبيه على مدح العلم وكفى ذلك مرغبا في الدين والعلم ومنفرا عن الدنيا والمال. وقوله تعالى (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى) ذكر لبعض آثار الطغيان ووعيد عليها. ولم يختلف المفسرون كما قال ابن عطية في أن العبد المصلي هو رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، والناهي هو اللعين أبو جهل. فقد أخرج أحمد ومسلم والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة أن أبا جهل حلف باللات والعزى لئن رأى رسول الله صلىاللهعليهوسلم يصلي ليطأن على رقبته وليعفرن وجهه ، فأتى رسول الله عليه الصلاة والسلام وهو يصلي ليفعل فما فجأهم منه إلّا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه ، فقيل له : ما لك؟ فقال : إن بيني وبينه لخندقا من نار وهولا وأجنحة. فقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «لو دنا مني لاختطفته الملائكة عضوا عضوا» وأنزل الله تعالى (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ) إلى آخر السورة. وقول الحسن هو أمية بن خلف كان ينهى سلمان عن الصلاة لا يكاد يصح لأنه لا خلاف في أن إسلام سلمان رضي الله تعالى عنه كان بالمدنية بعد الهجرة كما أنه لا خلاف في أن السورة