من أهل الكتاب مشهور حتى أنهم كانوا يستفتحون ويقولون : اللهم افتح علينا وانصرنا بالنبي المبعوث في آخر الزمان ، ويقولون لأعدائهم من المشركين : قد أظل زمان نبي يخرج بتصديق ما قلنا فنقتلكم معه قتل عاد وإرم. ومن المشركين لعله وقع من متأخريهم بعد ما شاع من أهل الكتاب واعتقدوا صحته مما شاهدوا مثلا من بعض من يوثق به بينهم من قومهم كزيد بن عمرو بن نفيل فقد كان يتطلب نبيا من العرب ويقول : قد أظل زمانه وإنه من قريش بل من بني هاشم بل من بني عبد المطلب ، ويشهد لذلك أنهم قبيل بعثته عليه الصلاة والسلام سمى منهم غير واحد ولده بمحمد رجاء أن يكون النبي المبعوث والله أعلم حيث يجعل رسالته. والتعبير عن إتيانه بصيغة المضارع باعتبار حال المحكي لا باعتبار حال الحكاية كما في قوله تعالى (وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ) [البقرة : ١٠٢] أي تلت. وقوله تعالى (وَما تَفَرَّقَ) إلخ كلام مسوق لمزيد التشنيع على أهل الكتاب خاصة ببيان أن ما نسب إليهم من الانفكاك لم يكن لاشتباه في الأمر بل بعد وضوح الحق وتبين الحال وانقطاع الأعذار بالكلية وهو السر في وصفهم بإيتاء الكتاب المنبئ عن كمال تمكنهم من مطالعته والإحاطة بما في تضاعيفه من الأحكام والأخبار التي من جملتها ما يتعلق بالنبي عليه الصلاة والسلام وصحة بعثته بعد ذكرهم فيما سبق بما هو جار مجرى اسم الجنس للطائفتين.
ولما كان هؤلاء والمشركون باعتبار اتفاقهم على الرأي المذكور في حكم فريق واحد عبّر عما صدر منهم عقيب الاتفاق عند الإخبار بوقوعه بالانفكاك ، وعند بيان كيفية وقوعه بالتفرق اعتبار الاستقلال كل من فريقي أهل الكتاب وإيذانا بأن انفكاكهم عن الرأي المذكور ليس بطريق الاتفاق على رأي آخر بل بطريق الاختلاف القديم. وتعقب التقريران بأنه ليس في الكلام ما يدل على أنه حكاية إلّا على إرادة منفكين عن الوعد باتباع الحق. وقال القاضي عبد الجبار : المعنى لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم وإن جاءتهم البينة وتعقبه الإمام بأن تفسير لفظ حتى بما ذكر ليس من اللغة في شيء ، ولعله أراد أن المراد استمرار النفي وأن في الكلام حذفا أي لم يكونوا منفكين عن كفرهم في وقت من الأوقات حتى وقت أن تأتيهم البينة إلّا أنه عبّر بما ذكر لأنه أخصر ، وفيه أيضا ما لا يخفى. وقيل : المعنى لم يكونوا منفكين عن ذكر الرسول صلىاللهعليهوسلم بالمناقب والفضائل إلى أن أتاهم فحينئذ تفرقوا فيه وقال كل منهم فيه عليه الصلاة والسلام قولا زورا ، وتعقب بأنه لا دلالة على إرادة ما قدر متعلق الانفكاك. وقيل المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم إلى وقت مجيء الرسول صلىاللهعليهوسلم ، فلما جاءهم تفرقوا فمنهم من آمن ومنهم من أصرّ على كفره ويكفي ذلك في العمل بموجب حتى. وتعقب بأن ظاهر (وَما تَفَرَّقَ) إلخ ذمّ لجميعهم وتشنيع عليهم ويؤيده قوله سبحانه بعد (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) إلخ ويبعد ذلك على حمل التفرق على إيمان بعض وإصرار بعض. وقيل : المعنى لم يكونوا منفكين عن كفرهم بأن يترددوا فيه بل كانوا جازمين به معتقدين حقيته إلى أن أتاهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم فعند ذلك اضطربت خواطرهم وأفكارهم وتشكك كل في دينه ومقالته وفيه ما لا يخفى. وقيل : معنى (مُنْفَكِّينَ) هالكين من قولهم انفك صلا المرأة عند الولادة وهو أن ينفصل فلا يلتئم ، والمعنى لم يكونوا معذبين ولا هالكين إلّا بعد قيام الحجة عليهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ، وقريب منه معنى ما قيل لم يكونوا منفكين عن الحياة بأن يموتوا ويهلكوا حتى تأتيهم البينة وهو كما ترى. وقيل المراد أنهم لم ينفكوا عن دينهم حقيقة إلى مجيء الرسول التالي للصحف المبينة نسخه وبطلانه ولما جاء وتبين ذلك انفكوا عنه حقيقة وإن بقوا عليه صورة وفيه ما فيه. وقال أبو حيان : الظاهر أن المعنى لم يكونوا منفكين أي منفصلا بعضهم عن بعض بل كان كل منهم