ويروى أن عبد المطلب لما ذهب إلى شعف الجبال بمن معه بقي ينتظر ما يفعل القوم وما يفعل بهم ، فلما أصبح بعث أحد أولاده على فرس له سريع ينظر ما لقوا فذهب فإذا القوم مشدخين جميعا فرجع رافعا رأسه كاشفا عن فخذه ، فلما رأى ذلك أبوه قال : ألا إن ابني أفرس العرب وما كشف عن عورته إلّا بشيرا أو نذيرا ، فلما دنا من ناديهم قالوا : ما وراءك؟ قال : هلكوا جميعا فخرج عبد المطلب وأصحابه إليهم فأخذوا أموالهم وقال عبد المطلب:
أنت منعت الحبش والأفيالا |
|
وقد رعوا بمكة الأحبالا |
وقد خشينا منهم القتالا |
|
وكل أمر منهم معضالا |
شكرا وحمدا لك ذا الجلالا
هذا ومن أراد استيفاء القصة على أتم مما ذكر فعليه بمطولات كتب السير. وقرأ السلمي «ألم تر» بسكون الراء جدا في إظهار أثر الجازم لأن جزمه بحذف آخره فإسكان ما قبل الآخر للاجتهاد في إظهار أثر الجازم ، قيل : والسر فيه هنا الإسراع إلى ذكر ما يهم من الدلالة على أمر الألوهية والنبوة أو الإشارة إلى الحثّ في الإسراع بالرؤية إيماء إلى أن أمرهم على كثرتهم كان كلمح البصر من لم يسارع إلى رؤيته لم يدركه حق إدراكه ، وتعقب هذا بأن تقليل البنية يدل على قلة المعنى وهو الرؤية لا على قلة زمانه. وقيل لعل السر فيه الرمز من أول الأمر إلى كثرة الحذف في أولئك القوم فتدبر. وقوله تعالى (أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ) إلخ بيان إجمالي لما فعل الله تعالى بهم والهمزة للتقرير كما سبق ولذلك عطف على الجملة الاستفهامية ما بعدها كأنه قيل قد جعل كيدهم في تعطيل الكعبة وتخريبها وصرف شرف أهلها لهم في تضييع وإبطال بأن دمرهم أشنع تدمير ، وأصل التضليل من ضل عنه إذا ضاع فاستعير هنا للإبطال ، ومنه قيل لإمرئ القيس الضليل لأنه ضلل ملك أبيه وضيعه. (وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ) أي جماعات جمع إبّالة بكسر الهمزة وتشديد الباء الموحدة ، وحكى الفراء إبالة مخففا وهي حزمة الحطب الكبيرة شبهت بها الجماعة من الطير في تضامها وتستعمل أيضا في غيرها ومنه قوله :
كادت تهد من الأصوات راحلتي |
|
إذ سالت الأرض بالجرد الأبابيل |
وقيل واحده أبول مثل عجول ، وقيل إبيل مثل سكين وقيل أبال. وقال أبو عبيدة والفرّاء : لا واحد له من لفظه كعباديد الفرق من الناس الذاهبون في كل وجه ، والشماطيط القطع المتفرقة وجاءت هذه الطير على ما روي عن جمع من جهة البحر ولم تكن نجدية ولا تهامية ولا حجازية. وزعم بعض أن حمام الحرم من نسلها ولا يصح ذلك ، ومثله ما نقل عن حياة الحيوان من أنها تعشش وتفرخ بين السماء والأرض وقد تقدم الخلاف في لونها. وعن عكرمة كأن وجوهها مثل وجوه السباع لم تر قبل ذلك ولا بعده (تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ) صفة أخرى لطير ، وعبر بالمضارع لحكاية الحال واستحضار تلك الصورة البديعة. وقرأ أبو حنيفة وأبو يعمر وعيسى وطلحة في رواية : «يرميهم» بالياء التحتية والضمير المستتر للطير أيضا والتذكير لأنه اسم جمع وهو على ما حكى الخفاجي لازم التذكير فتأنيثه لتأويله بالجماعة ، وقيل يجوز الأمران وهو ظاهر كلام أبي حيان. وقيل الضمير عائد على ربك وليس بذاك ، ونسبة القراءة المذكورة لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه حكاها في البحر وعن صاحب النشر أنه رضي الله تعالى عنه لا قراءة له وأن القراءات المنسوبة له موضوعة (مِنْ سِجِّيلٍ) صفة حجارة أي كائنة من طين متحجر معرب سنك كل وقيل : هو عربي من السجل بالكسر وهو الدلو الكبيرة ،