إصرار قوم نوح عليهالسلام على فنون الكفر والمعاصي ومبالغتهم في تكذيبه عليهالسلام فيما أوحى إليه من الأحكام التي من جملتها أحوال القيامة (حَمَلْناكُمْ) أي في أصلاب آبائكم أو حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم على أنه بتقدير مضاف وقيل على التجوز في المخاطبين بإرادة آبائهم المحمولين بعلاقة الحلول وهو بعيد (فِي الْجارِيَةِ) في سفينة نوح عليهالسلام والمراد بحملهم فيها رفعهم فوق الماء إلى انقضاء أيام الطوفان لا مجرد رفعهم إلى السفينة كما يعرب عنه كلمة (فِي) فإنها ليست بصلة للحمل بل متعلقة بمحذوف هو حال من مفعوله أي رفعناكم فوق الماء وحفظناكم حال كونكم في السفينة الجارية بأمرنا وحفظنا وفيه تنبيه على أن مدار نجاتهم محض عصمته عزوجل وإنما السفينة سبب صوري وكثر استعمال الجارية في السفينة وعليه :
تسعون جارية في بطن جارية
(لِنَجْعَلَها) أي الفعلة التي هي عبارة عن إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين (لَكُمْ تَذْكِرَةً) عبرة ودلالة على كمال قدرة الصانع وحكمته وقوة قهره وسعة رحمته (وَتَعِيَها) أي تحفظها والوعي أن تحفظ الشيء في نفسك ، والإيعاء أن تحفظه في غير نفسك من وعاء (أُذُنٌ واعِيَةٌ) أي من شأنها أن تحفظ ما يجب حفظه بتذكره وإشاعته والتفكر فيه ولا تضيعه بترك العمل به. وعن قتادة الواعية هي التي عقلت عن الله تعالى وانتفعت بما سمعت من كتاب الله تعالى وفي الخبر أن النبي صلىاللهعليهوسلم قال لعلي كرم الله تعالى وجهه : «إني دعوت الله تعالى أن يجعلها أذنك يا علي» قال علي كرم الله تعالى وجهه فما سمعت شيئا فنسيته وما كان لي أن أنسى. وفي جعل الأذن واعية وكذا جعلها حافظة ومتذكرة ونحو ذلك تجوز والفاعل لذلك إنما هو صاحبها ولا ينسب لها حقيقة إلّا السمع والتنكير للدلالة على قلتها وان من هذا شأنه مع قتله بنسيب لنحاة الجم الغفير وإدامة نسلهم وقيل ضمير نجعلها للجارية وجعلها تذكرة لما أنه على ما قال قتادة أدركها أوائل هذه الأمة أي أدركوا ألواحها على الجودي كما قال ابن جريج. بل قيل إن بعض الناس وجد شيئا من أجزائها بعد الإسلام بكثير والله تعالى أعلم بصحته ولا يخفى أن المعول عليه ما قدمناه. وقرأ ابن مصرف وأبو عمرو في رواية هارون وخارجة عنه وقيل بخلاف عنه «وتعيها» بإسكان العين على التشبيه بكتف وكبد كما قيل وقرأ حمزة بإخفاء الكسرة وروي عن عاصم أنه قرأ بتشديد الياء قال في البحر قيل هو خطأ وينبغي أن يتأول على أنه أريد به شد بيان الياء احترازا ممن سكنها لا إدغام حرف في حرف ولا ينبغي أن يجعل ذلك من التضعيف في الوقف ثم أجري الوصل مجرى الوقف وإن كان قد ذهب إليه بعضهم وروي عن حمزة وموسى بن عبد الله العبسي «وتعيها» بإسكان الياء فاحتمل الاستئناف وهو الظاهر واحتمل أن يكون مثل قراءة من أوسط ما تطعمون أهاليكم بسكون الياء وقرأ نافع «أذن» بإسكان الذال للتخفيف (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ) شروع بيان نفس الحاقة وكيفية وقوعها إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها. والمراد بالنفخة الواحدة النفخة الأولى التي عندها خراب العالم كما قال ابن عباس. وقال ابن المسيب ومقاتل هي النفخة الآخرة والأول أولى لأنه المناسب لما بعد وإن كانت الواو لا تدل على الترتيب لكن مخالفة الظاهر من غير داع مما لا حاجة إليه والنفخة قال جار الله في حواشي كشافه : المرة ودلالتها على النفخ اتفاقية غير مقصودة وحدوث الأمر العظيم بها وعلى عقبها إنما استعظم من حيث وقوع النفخ مرة واحدة لا من حيث إنه نفخ فنبه على ذلك بقوله سبحانه (واحِدَةٌ) وعن ابن الحاجب أن (نَفْخَةٌ) لم يوضع للدلالة على الوحدة على حيالها وإنما وضع للدلالة على النفخ والدلالة