متواتر فوجب قبوله (إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ) أي عملت ذلك كما قاله الأكثرون بناء على أن الظاهر من حال المؤمن تيقن أمور الآخرة كالحساب ، فالمنقول عنه ينبغي أن يكون كذلك لكن الأمور النظرية لكون تفاصيلها لا تخلو عن تردد ما في بعضها مما لا يفوت اليقين فيه كسهولة الحساب وشدته مثلا عبر عن العلم بالظن مجازا للإشعار بذلك. وقيل لما كان الاعتقاد بأمور الآخرة مطلقا مما لا ينفك عن الهواجس والخطرات النفسية كسائر العلوم النظرية نزل منزلة الظن فعبر عنه به لذلك ، وفيه إشارة إلى أن ذلك غير قادح في الإيمان وجوز أن يكون الظن على حقيقته على أن يكون المراد من حسابه ما حصل له من الحساب اليسير فإن ذلك مما لا يقين له به وإنما ظنه ورجحه لمزيد وثوقه برحمة الله تعالى عزوجل ولعل ذلك عند الموت فقد دلت الأخبار على أن اللائق بحال المؤمن حينئذ غلبة الرجاء وحسن الظن. وأما قبله فاستواء الرجاء والخوف وعليه يظهر جدا وقوع هذه الجملة موقع التعليل لما تشعر له الجملة الأولى من حسن الحال فكأنه قيل إني على ما يحسن من الأحوال أو إني فرح مسرور لأني ظننت بربي سبحانه أنه يحاسبني حسابا يسيرا وقد حاسبني كذلك فالله تعالى عند ظن عبده به ، وهذا أولى مما قيل يجوز أن يكون المراد إني ظننت أني ملاق حسابي على الشدة والمناقشة لما سلف مني من الهفوات والآن أزال الله تعالى عني ذلك وفرج همي. وقيل : يطلق الظن على العلم حقيقة وهو ظاهر كلام الرضي في أفعال القلوب وفيه نظر. (فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) قال أبو عبيدة والفراء أي مرضية وقال غير واحد أي ذات رضى على أنه من باب النسبة بالصيغة كلابن وتامر ، ومعنى ذات رضى ملتبسة بالرضا فيكون بمعنى مرضية أيضا وأورد عليه أن ما أريد به النسبة لا يؤنث كما صرح به الرضي وغيره وهو هنا مؤنث فلا يصح هذا التأويل إلّا أن يقال التاء فيه للمبالغة وفيه بحث. وقال بعض المحققين الحق أن مرادهم أن ما قصد به النسبة لا يلزم تأنيثه وإن جاء فيه على خلاف الأصل الغالب أحيانا. والمشهور حمل ما ذكر على أنه مجاز في الإسناد والأصل في عيشة راض صاحبها فأسند الرضا إليها لجعلها لخلوصها دائما عن الشوائب كأنها نفسها راضية. وجوز أن يكون فيه استعارة مكنية وتخييلية كما فصل في مطول كتب المعاني (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) مرتفعة المكان لأنها في السماء فنسبة العلو إليها حقيقة ويجوز أن تكون مجازا وهي حقيقة لدرجاتها وما فيها من بناء ونحوه أو يكون هناك مضاف محذوف أي عالية درجاتها أو بناؤها أو أشجارها وفي البحر عالية مكانا وقدرا ولا يخفى ما في استعمال العلو فيهما من الكلام (قُطُوفُها) جمع قطف بكسر القاف وهو ما يجتنى من الثمر زاد بعضهم بسرعة وكأن ذلك لأنها من شأن القطف بفتح القاف وهو مصدر قطف ولم يجعلوا قطوفها جمعا له لأن المصدر لا يطرد جمعه ولقوله تعالى (دانِيَةٌ) أي قريبة يتناول الرجل منها وهو قائم كما قال البراء بن عازب رضي الله تعالى عنه. وقال بعضهم : يدركها القائم والقاعد والمضطجع بفيه من شجرتها وعليه يجوز أن يكون مراد البراء التمثيل وأخرج عبد بن حميد عن قتادة أنه قال : دنت فلا يرد أيديهم عنها بعد ولا شوك وفسر الدنو عليه بسهولة التناول (كُلُوا وَاشْرَبُوا) بإضمار القول أي يقال فيها ذلك وجمع الضمير رعاية للمعنى (هَنِيئاً) صفة لمحذوف وقع مفعولا به والأصل أكلا وشربا هنيئا أي غير منغصين فحذف المفعول به وأقيمت صفته مقامه وصح جعله صفة لذلك مع تعدده لأن فعيلا يستوي فيه الواحد فما فوقه وجعل بعضهم المحذوف مصدرا وكذا صفته أعني (هَنِيئاً) ووجه عدم تثنيته بأن المصدر يتناول المثنى أيضا فلا تغفل. وجوز أن يكون نصبا على المصدرية لفعل من لفظه وفعيل من صيغ المصادر كما أنه من صيغ الصفات أي هنئتم هنيئا والجملة في موضع الحال والكلام في مثلها مشهور (بِما أَسْلَفْتُمْ) بمقابلة ما قدمتم من الأعمال الصالحة (فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ) أي الماضية وهي أيام الدنيا. وقيل أي