جاء وقته المقدر له ، والفعل في الوجهين منزل منزلة اللازم ويجوز أن يكون محذوفا لقصد التعميم أي لو كنتم تعلمون شيئا. ورجح الأول بعدم احتياجه للتقدير والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار النفي المفهوم من (لَوْ) وجعل العلم المنفي هو العلم النظري لا الضروري ولا ما يعمه فإنه مما لا ينفي اللهم إلّا على سبيل المبالغة (قالَ) أي نوح عليهالسلام مناجيا ربه عزوجل وحاكيا له سبحانه بقصد الشكوى وهو سبحانه أعلم بحاله ما جرى بينه وبين قومه من القيل والقال في تلك المدد الأطوال بعد ما بذل في الدعوة غاية المجهود وجاز في الإنذار كل حد معهود وضاقت عليه الحيل وعيت به العلل (رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي) إلى الإيمان والطاعة (لَيْلاً وَنَهاراً) أي دائما من غير فتور ولا توان (فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً) مما دعوتهم إليه وإسناد الزيادة إلى الدعاء من باب الإسناد إلى السبب على حد الإسناد في سرتني رؤيتك و (فِراراً) قيل تمييز وقيل مفعول ثان بناء على تعدي الزيادة والنقص إلى مفعولين وقد قيل إنه لم يثبت وإن ذكره بعضهم وفي الآية مبالغات بليغة وكان الأصل فلم يجيبوني ونحوه فعبر عن ذلك بزيادة الفرار المسندة للدعاء وأوقعت عليهم مع الإتيان بالنفي والإثبات (وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) أي إلى الإيمان فمتعلق الفعل محذوف وجوز جعله منزلا منزلة اللازم والجملة عطف على ما قبلها وليس ذلك من عطف المفصل على المجمل كما توهم حتى يقال إن الواو من الحكاية لا من المحكي (لِتَغْفِرَ لَهُمْ) أي بسبب الإيمان (جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ) أي سدوا مسامعهم عن استماع الدعوة فهو كناية عما ذكر ولا منع من الحمل على الحقيقة وفي نسبة الجعل إلى الأصابع وهو منسوب إلى بعضها وإيثار الجعل على الإدخال ما لا يخفى (وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ) أي بالغوا في التغطي بها كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشاهم لئلا يروه كراهة النظر إليه من فرط كراهة الدعوة ففي التعبير بصيغة الاستفعال ما لا يخفى من المبالغة وكذا في تعميم آلة الإبصار وغيرها من البدن بالستر مبالغة في إظهار الكراهة ، ففي الآية مبالغة بحسب الكيف والكم. وقيل : بالغوا في ذلك لئلا يعرفهم عليهالسلام فيدعوهم وفيه ضعف فإنه قيل عليه إنه يأباه ترتبه على قوله (كُلَّما دَعَوْتُهُمْ) اللهم إلّا أن يجعل مجازا عن إرادة الدعوة وهو تعكيس للأمر وتخريب للنظم (وَأَصَرُّوا) أي أكبوا على الكفر والمعاصي وانهمكوا وجدوا فيها مستعار من أصر الحمار على العانة إذا صر أذنيه أي رفعهما ونصبهما مستويين وأقبل عليها يكدمها ويطردها وفي ذلك غاية الذم لهم. وعن جار الله لو لم يكن في ارتكاب المعاصي إلا التشبيه بالحمار لكفى به مجزرة كيف والتشبيه في أسوأ أحواله وهو حال الكدم والسفاد وما ذكر من الاستعارة قيل في أصل اللغة وقد صار الإصرار حقيقة عرفية في اللازمة والانهماك في الأمر. وقال الراغب : الإصرار التعقد في الذنب والتشديد فيه والامتناع من الإقلاع عنه وأصله من الصر أي الشد ولعله لا يأبى ما تقدم بناء على أن الأصل الأول الشد والأصل الثاني ما سمعت أولا (وَاسْتَكْبَرُوا) من اتباعي وطاعتي (اسْتِكْباراً) عظيما وقيل نوعا من الاستكبار غير معهود والاستكبار طلب الكبر من غير استحقاق له (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً) أي دعوتهم مرة بعد مرة وكرة غب كرة على وجوه متخالفة وأساليب متفاوتة وهو تعميم لوجوه الدعوة بعد تعميم الأوقات وقوله (ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً) يشعر بمسبوقية الجهر بالسر وهو الأليق بمن همه الإجابة لأنه أقرب إليها لما فيه من اللطف بالمدعو فتم لتفاوت الوجوه وإن الجهار أشد من الإسرار والجمع بينهما أغلظ من الإفراد وقال بعض الأجلة ليس في النظم الجليل ما يقتضي أن الدعوة الأولى كانت سرا فقط فكأنه أخذ ذلك من المقابلة ومن تقديم قوله (لَيْلاً) وذكرهم بعنوان قومه وقوله (فِراراً) فإن القرب ملائم له. وجوز كون (ثُمَ) على معناها الحقيقي وهو التراخي الزماني لكنه باعتبار مبدأ