في قعدت القرفصاء أو وصف لمصدر محذوف أي قولا كذبا أي مكذوبا فيه لأنه لا يتصور صدور الكذب منه وإن اشتهر توصيفه به كالقائل وجوز أن يكون من الوصف بالمصدر مبالغة وهي راجعة للنفي دون المنفي. وقرأ الحسن والجحدري وعبد الرحمن بن أبي بكرة ويعقوب وابن مقسم «تقول» مضارع تقول وأصله تتقول بتاءين فحذفت إحداهما فكذبا مصدر مؤكد لأن الكذب هو التقول (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ) كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد قفر وخاف على نفسه نادى بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي أعوذ بك من السفهاء الذين في طاعتك يريد الجن وكبيرهم فإذا سمعوا بذلك استكبروا وقالوا سدنا الجن والإنس وذلك قوله تعالى (فَزادُوهُمْ) أي زاد الرجال العائذون الجن (رَهَقاً) أي تكبرا وعتوا فالضمير المرفوع لرجال الإنس إذ هم المحدث عنهم والمنصوب لرجال الجن وهو قول مجاهد والنخعي وعبيد بن عمير وجماعة إلّا أن منهم من فسر الرهق بالإثم وأنشد الطبري لذلك قول الأعشى :
لا شيء ينفعني من دون رؤيتها |
|
لا يشتكي وامق ما لم يصب رهقا |
فإنه أراد ما لم يغش محرما فالمعنى هنا فزادت الإنس والجن مأثما لأنهم عظموهم فزادوهم استحلالا لمحارم الله تعالى أو فزاد الجن العائذين غيّا بأن أضلوهم حتى استعاذوا بهم فالضميران على عكس ما تقدم وهو قول قتادة وأبي العالية والربيع وابن زيد والفاء على الأول للتعقيب وعلى هذا قيل للترتيب الأخباري. وذهب الفراء إلى أن ما بعد الفاء قد يتقدم إذا دل عليه الدليل كقوله تعالى (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) [الأعراف : ٤] وجمهور النحاة على خلافه وقيل في الكلام حذف أي فاتبعوهم فزادوهم. والآية ظاهرة في أن لفظ الرجال يطلق على ذكور الجن كما يطلق على ذكور الإنس. وقيل لا يطلق على ذكور الجن و (مِنَ الْجِنِ) في الآية متعلق ب (يَعُوذُونَ) ومعناها أنه كان رجال من الإنس يعوذون من شر الجن برجال من الإنس وكان الرجل يقول مثلا أعوذ بحذيفة بن بدر من جن هذا الوادي وهو قول غريب مخالف لما عليه الجمهور المؤيد بالآثار ، ولعل تعلق الإيمان بهذا باعتبار ما يشعر به من كون ذلك ضلالا موجبا لزيادة الرهق. وقد جاء في بعض الأخبار ما يقال بدل هذه الاستعاذة ففي حديث طويل أخرجه أبو نصر السجزي في الإبانة من طريق مجاهد عن ابن عباس وقال غريب جدا أنه صلىاللهعليهوسلم قال : «إذا أصاب أحدا منكم وحشة أو نزل بأرض مجنة فليقل أعوذ بكلمات الله التامات التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل السماء وما يعرج فيها ومن فتن النهار ومن طوارق الليل إلّا طارقا يطرق بخير» (وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا) أي الإنس (كَما ظَنَنْتُمْ) أيها الجن على أنه كلام بعضهم لبعض (أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللهُ أَحَداً) أي من الرسل أحد من العباد وقيل إنه لن يبعث سبحانه أحدا بعد الموت وأيّا ما كان فالمراد وقد أخطئوا وأخطأتم ولعله متعلق الإيمان وقيل المعنى أن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الكفرة أن لن إلخ فتكون هذه الآية من جملة الكلام الموحى به معطوفة على قوله تعالى (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) وعلى قراءة الكسر تكون استئنافا من كلامه تعالى وكذا ما قبلها على ما قيل وفي الكشاف قيل الآيتان يعني هذه وقوله تعالى (وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ) إلخ من جملة الموحى وتعقب ذلك في الكشف بأن فيه ضعفا لأن قوله سبحانه (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ) إلخ من كلام الجن أو مما صدقوه على القراءتين لأن من الموحى إليه فتخلل ما تخلل ما تخلل وليس اعتراضا غير جائز إلّا أن يؤول بأنه يجري مجراه لكونه يؤكد ما حدث عنهم في تماديهم في الكفر أولا ولا يخفى ما فيه من التكلف انتهى. وأبو السعود اختار في جميع الجمل المصدرة بأنا العطف على (أَنَّهُ اسْتَمَعَ) على نحو ما سمعت عن أبي حاتم وقد سمعت ما فيه آنفا وأن مخففة من الثقيلة اسمها ضمير الشأن والجملة بعدها خبر وجملة أن لن يبعث إلخ