(إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (٤) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) (٥)
____________________________________
وقوله تعالى (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا) بيان لما هو مرضى عنده تعالى بعد بيان ما هو ممقوت عنده وهذا صريح فى أن ما قالوه عبارة عن الوعد بالقتال لا عما تقوله المتمدح أو انتحله المنتحل أو أعاده المنافق وأن مناط التعبير والتوبيخ هو إخلافهم لا وعدهم كما أشير إليه وقرىء يقاتلون بفتح التاء ويقاتلون وصفا مصدر وقع موقع الفاعل أو المفعول ونصبه على الحالية من فاعل يقاتلون أى صافين أنفسهم أو مصفوفين وقوله تعالى (كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ) حال من المستكن فى الحال* الأولى أى مشبهين فى تراصهم من غير فرجة وخلل ببنيان رص بعضه إلى بعض ورصف حتى صار شيئا واحدا وقوله تعالى (وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ) كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال* وإذ منصوب على المفعولية بمضمر خوطب به النبى عليه الصلاة والسلام بطريق التلوين أى واذكر لهؤلاء المعرضين عن القتال وقت قول موسى لبنى إسرائيل حين ندبهم إلى قتال الجبابرة بقوله (يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ) فلم يمتثلوا بأمره وعصوه أشد عصيان حيث قالوا (يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ) (نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ) ـ إلى قوله تعالى ـ (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ) وأصروا على ذلك وآذوه عليه الصلاة والسلام كل الأذية (يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي) أى بالمخالفة والعصيان فيما أمرتكم به* وقوله تعالى (وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ) جملة حالية مؤكدة لإنكار الإيذاء ونفى سببه وقد* لتحقيق العلم وصيغة المضارع للدلالة على استمراره أى والحال أنكم تعلمون علما قطعيا مستمرا بمشاهدة ما ظهر بيدى من المعجزات القاهرة التى معظمها إهلاك عدوكم وإنجاؤكم من ملكته أنى رسول الله إليكم لأرشدكم إلى خير الدنيا والآخرة ومن قضية علمكم بذلك أن تبالغوا فى تعاظيمى وتسارعوا إلى طاعتى (فَلَمَّا زاغُوا) أى أصروا على الزيغ عن الحق الذى جاء به موسى عليهالسلام واستمروا عليه (أَزاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ) أى صرفها عن قبول الحق والميل إلى الصواب لصرف اختيارهم نحو الغى والضلال وقوله تعالى (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ) اعتراض تذييلى مقرر لمضمون ما قبله من الإزاغة ومؤذن بعلته* أى لا يهدى القوم الخارجين عن الطاعة ومنهاج الحق المصرين على الغواية هداية موصلة إلى ما يوصل إليها فإنها شاملة للكل والمراد بهم إما المذكورون خاصة والإظهار فى موقع الإضمار لذمهم بالفسق وتعليل عدم الهداية به أو جنس الفاسقين وهم داخلون فى حكمه دخولا أوليا وأيا ما كان فوصفهم بالفسق ناظر إلى ما فى قوله تعالى (فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ) هذا هو الذى تقتضيه جزالة النظم