(أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (٥) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (٦) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٧) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (٨) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (٩) (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) (١٠)
____________________________________
وبعد ما بين علو شأن القرآن العظيم وحقق أن إنزاله على لغتهم ليعقلوه ويؤمنوا به ويعملوا بموجبه عقب ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه فقيل (أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ) أى ننحيه ونبعده عنكم مجاز من قولهم ضرب الغرائب عن الحوض وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجه الذكر إليهم وملازمته لهم* كأنه يتهافت عليهم والفاء للعطف على محذوف يقتضيه المقام أى أنهملكم فننحى الذكر عنكم (صَفْحاً) أى إعراضا عنكم على أنه مفعول له للمذكور أو مصدر مؤكد لما دل هو عليه فإن التنحية منبئة عن الصفح والإعراض قطعا كأنه قيل أفنصفح عنكم صفحا أو بمعنى الجانب فينتصب على الظرفية أى* أفننحيه عنكم جانبا (أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ) أى لأن كنتم منهمكين فى الإسراف مصرين عليه على معنى أن حالكم وإن اقتضى تخليتكم وشأنكم حتى تموتوا على الكفر والضلالة وتبقوا فى العذاب الخالد لكنا لسعة رحمتنا لا نفعل ذلك بل نهديكم إلى الحق بإرسال الرسول الأمين وإنزال الكتاب المبين وقرىء إن بالكسر على أن الجملة شرطية مخرجة للمحقق مخرج المشكوك لاستجهالهم والجزاء محذوف ثقة بدلالة ما قبله عليه وقوله تعالى (وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ) (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) تقرير لما قبله ببيان أن إسراف الأمم السالفة لم يمنعه تعالى من إرسال الأنبياء إليهم وتسلية لرسول الله صلىاللهعليهوسلم عن استهزاء قومه به وقوله تعالى (فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً) أى من هؤلاء القوم المسرفين عدة له عليه الصلاة والسلام ووعيد لهم بمثل ما جرى على الأولين ووصفهم بأشدية البطش لإثبات حكمهم لهؤلاء بطريق الأولوية (وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ) أى سلف فى القرآن غير مرة ذكر قصتهم التى حقها أن تسير مسير المثل (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ) أى ليسندن خلقها الى من هذا شأنه فى الحقيقة وفى نفس الأمر لا أنهم يعبرون عنه بهذا العنوان وسلوك هذه الطريقة للإشعار بأن اتصافه تعالى بما سرد من جلائل الصفات والأفعال وبما يستلزمه ذلك من البعث والجزاء أمر بين لا ريب فيه وأن الحجة قائمة عليهم شاؤا أو أبوا وقد جوز أن يكون ذلك عين عبارتهم وقوله تعالى (الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً) استئناف من جهته تعالى أى بسطها لكم تستقرون فيها (وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً) تسلكونها فى أسفاركم (لَعَلَّكُمْ