يجوز أن يقع التخفيف فيه؟! وقد علمنا إجماعهم على ما جمعوه في المصحف ، فكيف يقدح بمثل هذه الحكايات الشاذة المولّدة بالإجماع المتقرر ، والاتفاق المعروف؟
ويجوز أن يكون الناقل اشتبه عليه ، لأنه خالف في النظم والترتيب ، فلم يثبتهما في آخر القرآن. والاختلاف بينهم في موضع الاثبات غير الكلام في الأصل. ألا ترى أنهم قد اختلفوا في أول ما نزل من القرآن.
فمنهم من قال قوله : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ) (١) ، ومنهم من قال : (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ) (٢) ومنهم من قال : فاتحة الكتاب.
واختلفوا أيضا في آخر ما أنزل فقال ابن عباس (٣) : (إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ) (٤) وقالت عائشة : سورة المائدة. وقال البراء (٥) بن عازب آخر ما نزل سورة براءة ، وقال سعيد (٦) بن جبير آخر ما أنزل قوله تعالى : (وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ) (٧) وقال السّدّيّ آخر ما أنزل : (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ) (٨)
ويجوز أن يكون في مثل هذا خلاف ، وأن يكون كل واحد ذكر آخر ما سمع. ولو كان القرآن من كلامه ، لكان البون بين كلامه وبينه ، مثل ما بين خطبة وخطبة ينشئها رجل واحد ، وكانوا يعارضونه لأنا قد علمنا أن القدر الذي بين كلامهم ، وبين كلام النبي صلىاللهعليهوسلم لا يخرج إلى حد الإعجاز ، ولا يتفاوت التفاوت الكثير. ولا يخفى كلام من جنس أوزان كلامهم. وليس كذلك نظم القرآن. لأنه خارج من جميع ذلك.
فإن قيل : لو كان غير ما ادعيتم لعرفنا بالضرورة أنه معجز دون غيره ، قبل معرفة الفصل من وزن الشعر ووزنه ، والفرق بينه وبين غيره من الأوزان إلى نظر وتأمل ، وفكر وروية
__________________
(١) آية (١) سورة العلق.
(٢) آية (١) سورة المدثر.
(٣) سبقت ترجمته.
(٤) آية (١) سورة النصر.
(٥) البراء بن عازب أبو عمارة الأنصاري الأوسي الحارثي ، استصغر يوم بدر فلم يشهدها ، وشهد أحدا وما بعدها ، وشهد بيعة الرضوان. مات بعد سنة (٧٠). له ترجمة في : الرياض المستطابة ص (٣٧).
(٦) سعيد بن جبير بن هشام الأسدي. كان ابن عباس إذا أتاه أهل الكوفة يستفتونه ، يقول : أليس فيكم ابن أم الدهماء؟ يعنيه. قتله الحجاج سنة (٩٢). له ترجمة في : شذرات الذهب ١ / ١٠٨ ، ووفيات الأعيان ١ / ٢٠٤ ، وتذكرة الحفاظ ١ / ٧٦.
(٧) آية (٢٨١) سورة البقرة.
(٨) آية (١٢٩) سورة التوبة.