واكتساب .. وإن كان النظم المختلف الشديد التباين إذا وجد أدرك اختلافه بالحاسة ، إلا أن كل وزن وقبيل إذا أردنا تمييزه من غيره احتجنا فيه إلى الفكرة والتأمل.
فإن قيل : لو كان معجزا لم يختلف أهل الملة في وجه إعجازه؟ قيل : قد يثبت الشيء دليلا وإن اختلفوا في وجه دلالة البرهان ، كما قد يختلفون في الاستدلال على حدوث العالم من الحركة والسكون ، والاجتماع والافتراق.
فأما المخالفون ، فإنه يتعذر عليهم أن يعرفوا أن القرآن كلام الله ؛ لأن مذهبهم أنه لا فرق بين أن يكون القرآن من قبل الرسول أو من قبل الله عزوجل في كونه معجزا ؛ لأنه إن خصه بقدر من العلم لم تجر العادة بمثله ، أمكنه أن يأتي بما له هذه الرتبة. وكان متعذرا على غيره لفقد علمه بكيفية النظم.
وليس القوم بعاجزين عن الكلام ، ولا عن النظم والتأليف. والمعنى المؤثر عندهم في تعذر مثل نظم القرآن علينا : فقد العلم بكيفية النظم. وقد بيّنا قبل هذا أن المانع هو أنهم لا يقدرون عليه. والمفحم قد يعلم كيفية الأوزان واختلافها ، وكيفية التركيب. وهو لا يقدر على نظم الشعر.
وقد يعلم الشاعر وجوه الفصاحة. وإذا قالا الشعر جاء شعر أحدهما في الطبقة العالية وشعر الآخر في الطبقة الوضيعة.
وقد يطّرد في شعر المبتدى والمتأخر في الحذق القطعة الشريفة والبيت النادر ، ومما لا يتفق للشاعر المتقدم.
والعلم بهذا الشأن في التفصيل لا يغني ، ويحتاج معه إلى مادة من الطبع ، وتوفيق من الأصل.
وقد يتساوى العالمان بكيفية الصناعة والنّساجة ، ثم يتفق لأحدهما من اللطف في الصنعة ، ما لا يتفق في الآخر.
وكذلك أهل نظم الكلام يتفاضلون مع العلم بكيفية النظم. وكذلك أهل الرمي يتفاضلون في الإصابة ، مع العلم بكيفية الإصابة.
وإذا وجدت للشاعر بيتا أو قطعة أحسن من شعر امرئ القيس ، لم يدل ذلك على أنه أعلم بالنظم منه. لأنه لو كان كذلك كان يجب أن يكون جميع شعره على ذلك الحد.
ويحسب ذلك البيت في الشرف والحسن والبراعة ، ولا يجوز أن يعلم نظم قطعة ويجهل نظم مثلها. وإن كان كذلك علم أن هذا لا يرجع إلى ما قدروه من العلم. أو لسنا نقول إنه يستغني عن العلم في النظم ، بل يكفي علم به في الجملة ، ثم يقف الأمر على القدرة.