تجد فيه الحكمة وفصل الخطاب ، مجلوة عليك في منظر بهيج ، ونظم أنيق ، ومعرض رشيق ، غير متعاص على الأسماع ، ولا متلو على الأفهام ، ولا مستكره في اللفظ ولا متوحش في المنظر غريب في الجنس ، غير غريب في القبيل ، ممتلئ ماء ونضارة ولطفا وغضارة ، يسري في القلب كما يسري السرور ، يمر إلى مواقعه كما يمر السهم ، ويضيء كما يضيء الفجر ، ويزخر كما يزخر البحر ، طموح العباب ، جموح على المتناول المنتاب ، كالروح في البدن ، والنور المستطير في الأفق ، والغيث الشامل ، والضياء الباهر. (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ، تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) (١).
من توهم أن الشعر يلحق شأوه بان ضلاله. وصح جهله. إذ الشعر سمت قد تناولته الألسن ، وتداولته القلوب ، وانثالت عليه الهواجس ، وضرب الشيطان فيه بسهمه ، وأخذ منه بحظه. وما دونه من كلامهم ، فهو أدنى محلا ، وأقرب مأخذا ، وأسهل مطلبا. ولذلك قالوا : فلان مفحم ، فأخرجوه مخرج العيب. كما قالوا : فلان عيي ، فأوردوه مورد النقص.
والقرآن كتاب دل على صدق متحمله ، ورسالة دلت على صحة قول المرسل بها ، وبرهان شهد له برهان الأنبياء المتقدمين. وبينة على طريقة من سلف من الأولين ، حيرهم به إذا كان من جنس القول الذي زعموا أنهم أدركوا فيه النهاية. وبلغوا فيه الغاية. فعرفوا عجزهم ، كما عرف قوم عيسى نقصانهم. فيما قدروا من بلوغ أقصى الممكن في العلاج ، والوصول إلى أعلى مراتب الطب. فجاءهم بما بهرهم من إحياء الموتى ، وإبراء الأكمه والأبرص. وكما أتى موسى بالعصا التي تلقفت ما دققوا فيه من سحرهم ، وأتت على ما أجمعوا عليه من أمرهم. وكما سخّر لسليمان من الرياح والطير والجن حين كانوا يولعون بدقائق الحكمة ، وبدائع من اللطف. ثم كانت هذه المعجزة مما يقف عليه الأول والآخر وقوفا واحدا. وبقى حكمها إلى يوم القيامة.
انظر وفقك الله لما هديناك إليه ، وفكر في الذي دللناك عليه ، فالحق منهج واضح ، والدين ميزان راجح ، والجهل لا يزيد إلا غما ، ولا يورث إلا ندما. قال الله عزوجل : (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ) (٢) وقال : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا) (٣) وقال : (يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ
__________________
(١) آية (٤٢) فصلت.
(٢) آية (٩) سورة الزمر.
(٣) آية (٥٢) سورة الشورى.